خطر الانفصال الذي يرافق حركات التغيير!

TT

أحيانا تكون الأحداث مليئة بالتفاصيل. تتلاحق التطورات يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة. ولكن هذا لا يعفي من ضرورة إلقاء نظرة شاملة، أو تمتد قليلا إلى الأمام.

في ملاحقة التطورات، نرى مواقف، ونرى آراء، ونرى صدامات. ولكن في النظرة الشاملة التي تستشرف، نرى نوعا خفيا من المخاطر، هو الذي يرسم صورة النتائج للأحداث، ويقرر ما إذا كانت ستؤول إلى ما هو إيجابي أو إلى ما هو سلبي.

نقول هذا بسبب ما يجري حولنا، وفي أكثر من عاصمة عربية، من تظاهر ومن غليان. ونقوله أيضا بسبب خطر يلوح أمام الأنظار، يبرز أحيانا بفتور، ويبرز أحيانا بقوة. إنه احتمال الانقسام والانفصال والتشرذم.

نبدأ من ليبيا، حيث يلتقي الليبيون مع العرب مع القوى الدولية. هبة شعبية ضد حاكم من نوع فريد، لا يتورع أن يرد على تمرد شعبه بقصف الطائرات وقذائف المدافع. هذا هو الجانب الأول من الصورة. أما الجانب الآخر فهو أن البلد مهدد بالتقسيم. أن تتخلص من الحاكم وأن يتقسم البلد، هذا هو الخيار النهائي. ولا نقول هذا كاستنتاج أخلاقي أو كاستنتاج سياسي، ولكن نقوله كاحتمالات تفرض نفسها وكأنها شيء أقوى من الاحتمالات. ففي ليبيا شرق وغرب. شرق يسيطر عليه الثوار، وغرب يسيطر عليه الحاكم. وفي الوسط من ذلك منطقة صراع وتجاذب. منطقة كر وفر يموت فيها الناس، ويتم تدمير المنشآت والمصانع والبيوت. هنا يتدخل العامل الدولي. تأتي الدول العظمى بطائراتها وأحلافها العسكرية (حلف الناتو). يقولون إنهم سيتدخلون لحماية المدنيين. يطرب الثوار لذلك، ويبدأ القصف. وتبدو الصورة ميالة لصالح الثوار. وهنا.. وفجأة.. يتوقف القصف، تنسحب دولة عظمى من الصراع، وتقول دولة عظمى أخرى إن الحل لا يمكن إلا أن يكون سياسيا، فتختل المعادلات، ويعود الحاكم ليسيطر هنا وهناك، وتتجمد الصورة نسبيا، الثوار في الشرق والحاكم في الغرب، وتكاد ترتسم في الهواء صورة بلدين، أو صورة إقليمين، ونبدأ في سماع تحليلات من أصحاب الطائرات والأحلاف تقول: إن الحرب في ليبيا قد تطول. ومعنى ذلك على الأرض، أن الثوار سيبقون جامدين في سيطرتهم على الشرق، وأن الحاكم سيتجمد في سيطرته على الغرب.

هنا نتذكر أول اجتماع غربي بعد انفجار أحداث ليبيا بيومين أو ثلاثة. الغربيون أصحاب القيم يجتمعون ليبحثوا كيف يمكن لهم أن يحموا المدنيين. يقول المندوب الألماني كما نقل ذلك مراسلو التلفزيون بالصوت والصورة، إن ليبيا كانت طوال تاريخها مكونة من ثلاثة أقاليم. وبعد هذا القول تدور الأحداث وتدور، ويتجسد أمامنا شبح إقليم الشرق وشبح إقليم الغرب، ويلتقي التوقع مع الواقع. وهنا يثور سؤال: هل كان الأمر مجرد توقع، أو أن هناك من يريد لهذا الانفجار الشعبي أن يتجمد عند نقطة الانفصال؟

ننتقل من شمال أفريقيا إلى جنوب آسيا العربية. من ليبيا إلى اليمن، حيث نشهد نشاطا شعبيا فريدا من نوعه، حيث عشرات الآلاف يتظاهرون في الشارع يوميا مطالبين برحيل الحاكم، وحيث عشرات الآلاف يتظاهرون يوميا في الشارع الآخر مطالبين ببقاء الحاكم. ويتكرر المشهد يوما بعد يوم، وتطول الأيام، وتنعقد الاجتماعات بين الغاضبين والمؤيدين، وتكون المفاجأة أن السفير الأميركي جالس بين الحضور. ما الذي جعل السفير الأميركي يجلس في لقاء كهذا؟ يقولون إن الحاكم كان حليفا لأميركا. ويقولون إن أميركا تخلت عنه. ولكن كل هذا لا يهم، فهذه هي الوقائع وكفى.

وتبدأ آلات التلفزيون في الانتقال من هذا الزعيم إلى ذاك، ومن هذه المظاهرة في «الشمال» إلى تلك المظاهرة في «الجنوب». من صنعاء إلى عدن، ومن تعز إلى لحج وأبين، ويرتفع علنا شعار الانفصال، انفصال «الجنوب» عن «الشمال»، كما كان الحال عليه طوال فترة الاحتلال البريطاني، وخلافا للحال يوم الإعلان عن اتفاق الوحدة عام 1990، وخلافا كذلك لحال المواجهة العسكرية التي انتهت بتكريس وحدة الشطرين، وانهزام الذين أرادوا العودة بالشطر الجنوبي من اليمن إلى وضعه السابق.

لقد صنع الجنوبيون والشماليون إنجاز الوحدة بينهما، صنعوه بالحوار والمفاوضات لا بشيء آخر، وصنعوه بدستور متفق عليه لا بالإجبار أو الإكراه. ثم اختلفوا واصطدموا وتقاتلوا، ولكنهم حافظوا على وحدتهم، وهنا بدأ الخلل. بدأ قادة الشمال «المنتصرون» يتصرفون وكأنهم انتصروا على عدو، وبدأوا ينكلون بهذا العدو، بدأوا يتفننون في اجتثاثه من الحياة السياسية، وفي إقصائه عن كل مهمات إدارة الحكم أو إدارة البلد. وشمل ذلك كامل المنظومة التي كانت حاكمة في الجنوب سابقا، من الأعلى إلى الأسفل، ومن القادة إلى الجنود، ومن الزعماء إلى الأتباع. وأصبح الاجتثاث والإقصاء هو قاعدة العلاقة السياسية بين الطرفين. ثم جاء رد الجنوب على هذا الخطأ الفادح حاملا خطأ فادحا آخر، إذ بدلا من المطالبة بإصلاح الأخطاء، وبدلا من المطالبة بالتعامل الموضوعي مع قوى الجنوب السياسية والاجتماعية بعيدا عن عقلية الاجتثاث والإقصاء، ارتفع في الجنوب شعار الانفصال من جديد. وما إن لاحت نذر الانفجار الشعبي الجديد، حتى اندمج الغاضبون من الجنوب مع الغاضبين من الشمال، ووجد كل طرف أن جهد الطرف الآخر يساعده في مسعاه، وهكذا نبتت من داخل حالة الغضب ضد الحاكم، دعوة الانفصال، ودعوة العودة باليمن إلى «شطرين»، سواء كانفصال معلن، أو كتستر تحت عناوين «الأقاليم». وهكذا أيضا قد يرحل الحاكم حسب الدستور أو خلافا له، ويعتبر الكثيرون ذلك انتصارا لهم، ولكن هل هو انتصار لليمن؟ وهل ينتصر اليمن حين ينقسم؟ وهل من المحتم أن يكون ثمن الديمقراطية تفتت البلد؟

ولنتذكر أنه قبل ذلك حدث ما حدث في السودان، وانفصل الجنوب عن الشمال. ولا يزال السودان يعيش خطر الانفجار في منطقة دارفور (غرب السودان)، حيث ترتفع أصوات محلية تردفها أصوات دولية تدعو وتبارك باسم المنطق، وأيضا باسم حماية المدنيين، دعوة انفصال دارفور عن السودان، ليصبح السودان الموحد ثلاث دول. ولنتذكر أنه قبل ذلك أيضا، حدث ما حدث في العراق، وجاءنا سيئ الذكر «بريمر»، ووضع دستورا للعراق يقسمه إلى ثلاثة أقاليم، أقاليم تقسم العراق إلى طوائف، وأقاليم تقسم العراق إلى إثنيات قومية.

هذه الأمثلة كلها، وهي أمثلة خطيرة للغاية، تطرح تساؤلا استراتيجيا: هل هذا هو ما يراد للمنطقة العربية؟ وهل من الطبيعي أن يقود النضال من أجل الحرية والديمقراطية إلى تقسيم البلاد العربية؟ ولماذا يأتي التقسيم دائما عندما يكون العامل الأميركي موجودا؟ ولماذا يأتي التقسيم عندما يكون العامل الإسرائيلي فاعلا؟

أسئلة كثيرة لا بد أن يلتفت إليها أصحاب التغيير مهما كانت دوافعهم وطنية، فالدائرة الصغيرة قد تحتويها أحيانا دائرة أكبر ليست من صنعنا.