المؤامرة السويسرية!

TT

مع انطلاقة الثورات الشبابية العربية بشكل مفاجئ ومثير ومذهل كانت ردود فعل الحكومات والأنظمة العربية على الدرجة نفسها من الذهول، فبدأت بتحويل الأسباب الخاصة بهذه الثورات إلى «ديباجات مفخمة» لأجل تبرير وتفسير ما يحدث لجماهيرهم وشعوبهم من خلال منابرهم الإعلامية الرسمية. وكم كان المشهد حزينا ومضحكا في آن واحد والعالم يرى ويسمع تكرار العبارات نفسها من بلد إلى آخر يحملون فيها مسؤولية ما يحدث على القنوات الفضائية المأجورة وعلى الأجندات الخفية وعلى العملاء المندسين وعلى الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والميليشيات المسلحة وأذيال الإمبريالية وغير ذلك من الأسباب المفجعة والهزلية.

الثورات العربية كلها تفجرت في دول مارست أشد أنواع الإهانة والمذلة والتنكيل بحق شعوبها وحرمتها من حق العيش بأمل وكرامة، وتمادت في سلطتها المهينة لتطبق في حالات أو تحاول تطبيق نظرية التوريث السياسي بشكل فوقي واستفزازي، لا تنصت فيه لرأي الشارع ولا تحسب تبعات ذلك السياسية وأنها تخترع بذلك أسلوبا جديدا من المملكة الجمهورية غير معروف إلا في دول الخوف والرعب أمثال كوريا الشمالية وكوبا اللتين قامتا بتطبيق فكرة التوريث مرة للابن ومرة للأخ الشقيق.

وحقيقة لا يمكن إلا الاستغراب من الأنظمة الهشة التي لا تتحمل نقد محطة فضائية فتضطر لمواجهتها بسلسلة أسطورية من قصص وشهود الخيال السياسي الذي لا يمكن أن يصدقه طفل في العاشرة من عمره، وهي الدول نفسها التي تفتخر بمنظومتها الأمنية الحديدية التي لا يمكن أن يمر من خلالها غريب ولا ناموس حتى إلا بإذن صريح للدخول ويتعرض لرقابة أمنية خيالية ويضرب بها المثل، هذه الدول اليوم تقول إن أراضيها أصبحت مرتعا لفرق وميليشيات وعملاء ومرتزقة ومندسين (هكذا فجأة!) بدلا من الإقرار والاعتراف ومواجهة الأمر بأن ما يحصل الآن ما هو إلا مطالب عادلة ومحقة لشعوب كريمة ومقهورة، آن الأوان ليستمع لمطالبها ويقر العمل بها بعد أن تحولت بلادهم إلى سجن كبير وملعب كبير للفسدة والمفسدين من المحاسيب والأنصار.

كنت في حديث مع صديق عربي، وطبعا كان الكلام في مجمله عن الأحداث العربية المهولة الحاصلة الآن وأثرها، وطبعا أسبابها، فقال لي: هل تعلم أن السبب الأكبر فيما يحدث اليوم هو أن سويسرا وراء ذلك كله؟! قلت له متعجبا: ما قصدك؟ لم أفهم! قال لي: سويسرا نموذج لما هو مطلوب، بلد فيه حقوق وواجبات وقانون وعدل ونظام وإعلام حر وبرلمان مسؤول ومكافحة فساد وخدمات مدنية متكاملة وبنية تحتية رائعة ومحاسبة المخطئ ومكافأة المجد بلا فوضى ولا محسوبية ولا مناطقية ولا طائفية ولا توريث سياسي ولا أمن دولة ولا معتقلات ولا مباحث ولا استخبارات ولا تطرف ديني ولا سلفية ولا إخوان، وضرائب تسدد لأجل الصالح العام ومساواة بين المواطنين وعلاقة سوية بين المواطن والدولة.. ذلك كله من دون شعوذة سياسية ولا دجل تشريعي يصاحبها لأجل تفصيل نظم وقوانين ودساتير لأجل مصلحة فرد أو حزب أو طائفة أو مذهب باسم الديمقراطية أو الصالح العام والمصلحة العليا، وحقيقة الأمر ذلك كله ما هو إلا هراء لا يمكن أخذه على محل الجد والمصداقية وسرعان ما يولد غضبا وقنوطا وظلما ويفجر الثورات التي نراها اليوم، ونرى مشاهد الجرحى والقتلى وأنهار الدماء التي تروي أرضا حُرمت من الكرامة والعدل، فكان الله شاهدا على الظلم الذي وقع على أهلها. نعم، السويسريون هم السبب، ولولا ساعاتهم الدقيقة وشوكولاتاتهم اللذيذة وبلادهم الجميلة ونظام حياتهم الذي يعكس ذلك كله لكنا اقتنعنا أن الفضائيات والمندسين والإرهابيين وغيرهم هم السبب فيما يحدث، ووقتها ستكون هذه أحلى نكتة!

[email protected]