يا عصام شرف.. عدلت فأمنت فأكلت فولا وطعمية

TT

كأني بالمصريين الذين شاهدوا رئيس الوزراء عصام شرف وهو يدلف مطعما شعبيا للفول والطعمية مصطحبا أسرته ودون حراسة، يقولون: ما لهذا الرئيس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟! وفي وقت لاحق ألح «مرشح الثورة» الذي خرج من بين أكوام الفساد والجبروت على أن يدفع غرامة الوقوف الخطأ لسيارة ابنه الذي أعفاه منها أحد ضباط الشرطة لما علم بملكية السيارة لابن رئيس الوزراء، مبلغ الغرامة زهيد ربما لا يزيد عن 15 دولارا لكن المسألة مسألة المبدأ، وفي تقديري أن عصام شرف أراد أن يبث رسالة لشعبه المتعطش للعدالة والنزاهة ونظافة اليد، ليقول لهم إن نموذج الحاكم النظيف ليس مستحيلا في عالمنا العربي.

قد يبدو كلامي هذا حكما مستعجلا على تجربة لم تمض عليها شهور معدودة، لكن من يعرف تاريخ عصام شرف وغيرته الوطنية ونظافة يده لا يستبعد أبدا صدق مثل تلك التصرفات الحضارية. إن حالة اليأس الشديدة التي كانت سائدة تجعل الشعب العربي يتعلق بأي بارقة أمل في التغيير، وما فعله عصام إحدى هذه البوارق. إن من السذاجة أن يتصور أحد أن شباب الثورة المصرية ومعهم الشعب المصري والحانقون على فساد النظام السابق واستبداديته يظن أن عصام شرف أو غيره مهما بلغ صدقه ونزاهته ونظافة يده أن بمقدوره أن يحول مصر في فترة وجيزة إلى واحة من الازدهار والاستقرار، بل على العكس فقد ازداد الوضع بعد الثورة تعقيدا كما ذكر ذلك لي شخصية دبلوماسية مرموقة في لندن، مطبخ السياسة العالمية، وأشار إلى أن الاقتصاد المصري أصيب بعد إسقاط نظام مبارك في مقتل وفي مصدرين أساسيين للدخل القومي؛ السياحة والاستثمار الأجنبي، هذا ناهيك عن الوضع الأمني الهش. وهذا صحيح، ولكن الصحيح أيضا أن الثورة كانت عملية جراحية خطرة وضرورية في آن واحد، وأي عملية جراحية كبيرة، ولتكن في القلب مثلا، لا نتصور أن يقفز مريضها بعد العملية من سريره ليجري ويهرول ويلعب «الاسكواش»، فالطبيعي أن تترك العملية الجراحية جسد صاحبها منهكا يحتاج إلى وقت طويل ليعود إلى حالته الطبيعية.

لقد أبدى عدد من المهتمين عن قلقهم على الدول العربية التي اندلعت فيها الثورات من أن تنجرف للحالة الصومالية، وهذا قلق مفهوم؛ لأن الثورات كما أسلفنا كالعمليات الجراحية قد تؤدي إلى الموت، لكن وجود المخاطرة لا يعني أبدا تحاشي العملية الجراحية، لأن الفساد إذا استشرى في جسد الأمم حتما سيؤدي إلى الثورة، نعم قد ينفع التدخل في تأجيلها، لكن ليس في دفعها.

لقد وصلت أوضاع الفساد في عدد من الدول العربية إلى درجة مرضية مميتة أدت إلى هذه الثورات المحفوفة بالمخاطر، وكان من الممكن أن تجرى في الماضي عمليات بسيطة، بل تناول أدوية ناجعة، لكن عناد بعض الزعامات العربية واستشراء الفساد وتضخم الذات واحتقار الشعوب والإحساس بشعور «الاستثنائية» مما يجري على الساحات العربية، أدى إلى تردي الأوضاع بصورة مأساوية، والزعامة السورية مثال صارخ؛ لأنها شاهدت رؤوسا عربية تتدحرج ورؤوسا أخرى تترنح، فما اتعظت ولا اعتبرت، وبدلا من ذلك صار رئيسها يوزع في خطابه «التاريخي» ابتسامات وتعليقات ساخرة ما كانت أبدا تليق في زمن كانت بلاده تنجرف فيه نحو هاوية الاضطرابات الدموية.

إذا كان عصام شرف قد أكل الفول والطعمية بلا حراسة، فكم تتوق شعوب عربية أخرى أن ترى رؤساء وزرائها يوما ما يأكلون الطعام «الكنافة والمندي والمنسف والكسكس»، وتمشي في الأسواق.

[email protected]