الهجوم على السلفيين.. «حصريا»

TT

أصبحت «السلفية» بعبعا يخيف الجميع، ويخوف به الجميع في هذه المرحلة العربية المضطربة.

آخر الإبداعات في هذا الصدد ما قالته السلطات السورية عن أن السلفيين يزمعون إقامة إمارة سلفية في درعا، ومعنى هذا الكلام أن آلة القمع السلطوية إنما هي موجهة لهؤلاء السلفيين «المتوحشين».

في مصر لا حديث لمثقفي الثورة الجدد إلا عن السلفيين وخطر السلفيين وهل السلفيون مجرد أدوات غامضة للثورة المضادة وبقايا النظام البائد، بمعنى أنهم «صناعة» وليسوا ظاهرة حقيقية مصرية؟

تعززت هذه الأسئلة وتلك الهواجس بعد العرض القوي الذي قام به السلفيون في جميع المدن المصرية وتوجوا ذلك بغزوة الصناديق الانتخابية في حملة التعديلات الدستورية، وخطبة أحد أبرز نجوم الوعظ السلفي في القاهرة، الشيخ محمد يعقوب، إضافة لتبنيهم قضية الفتاة القبطية «كاميليا» التي قيل إنها خطفت من الكنيسة بسبب إسلامها، وقطع أذن مواطن قبطي، وحملة إزاحة محافظ (قنا) القبطي، ومهاجمة عدد من السافرات والهجوم على الفن.

قبل كل شيء، يجب التوضيح، والتأكيد على أن الظاهرة المسماة بالسلفية، وأسميها التيار السني الأصولي المتزمت، هي ظاهرة حقيقية وموجودة في المجتمعات العربية، وهذه الظاهرة ليست «صناعة» حكومية كما يتوهم كثير من المثقفين العرب «الجاهلين» بهذه التيارات، والجاهلين أكثر بطبيعة التدين والعلاقة بالدين لدى المجتمعات العربية التي ترى في الشيخ الملتحي الذي يتحدث عن الآخرة والنار والجنة والحلال والحرام بلغة سهلة مبسطة، ترى فيه الملاذ من فتن الدنيا وأخطار الوقوع في ما يغضب الرب، شيوخ الخطابة الدينية هم استجابة لهذه المشاعر الحقيقية لدى المجتمعات العربية المسلمة، التي هي في أغلبها مجتمعات شديدة العلاقة بالمكون الديني فيها، ولم تحدث لها نقلات نوعية في طبيعة هذه العلاقة الالتصاقية، وتظل هذه المساحة النقدية والعلمية الفاصلة حكرا على النخب العربية المدنية والعلمانية فقط، وهي قليلة.

هذه حقيقة تامة وناجزة، ولا مجال للقول بأن الأنظمة العربية، البائدة منها أو التي ستبيد، هي التي خلقت هذه الظواهر، فهو أمر تعجز عنه ولو بذلت الغالي والنفيس، هذا أمر غائر في النفوس، نعم هي قد تستفيد أو تحاول ذلك من هذه القوة الروحية الاجتماعية، لكنها قوة موجودة بالسلطة السياسية أو من دونها.

هذه نقطة يجب إيضاحها مع وجود من يردد بعض الأضاليل عن أن النظام العربي السالف، لوحده، هو من صنع ظاهرة التدين المجتمعي، ناهيك عن تنظيمات العنف الديني مثل «القاعدة»، فهذا كلام أكثر هشاشة من أعواد القمح اليابسة!

الأمر الثاني، لا شك أن التيارات السلفية والتيارات الأصولية بشكل عام هي قوى ممانعة ضد التحديث والعصرنة، هذا أمر لا ريب فيه. وقد تحملت المجتمعات العربية من عنت هذه الممانعة كثيرا، بالذات في مسألتي المرأة والتسامح الطائفي. لكن يبقى أمر البحث في طبيعة هذه التيارات أمرا ضروريا، للفهم أولا، وللقرار ثانيا.

هل التهافت الآن على رمي كل شيء في ساحة السلفيين يعني أن جماعة الإخوان المسلمين بريئة من كل الخطايا ومن تسييس الدين والمجال العام كله؟ أليس السلفيون و«الإخوان» سمكا يسبح في ذات البركة؟ فلماذا صنانير النقد توجه للسمك السلفي دون السمك الإخواني في هذه المرحلة بالذات؟!

هذا الحال ما من شك أنه يعجب «الإخوان» في العالم العربي: أن تصبح صورتهم نقية ومعتدلة وأن تتوجه سهام النقد إلى السلفيين وتنصرف عنهم. بالذات في مصر، حيث يعيش «الإخوان» مرحلتهم الذهبية في ظل تحالف واضح مع العسكر، الحكام الجدد لمصر، إذن لا بد من «شيطان أصولي» جديد ترمى عليه مسؤولية التخلف والتعصب، ليكن ذلك السلفيين إذن، بعدما كان «الإخوان» طيلة العقود الماضية هم هذا الهدف. يقول هاني درويش في مقالته، الأحد الماضي بصحيفة «الحياة»، عن هذا الفرح الإخواني بانصراف النقد عنهم، وصراع السلفيين مع الصوفيين والأزهر بمصر: «يرعى الإخوان المسلمون هذه النار المستعرة بصبر وابتسامة تشف، فالسلفيون يمهدون أرض معركة الانتخابات البرلمانية القادمة لمصلحة الاستقطاب الديني الذي يخدم مرشحيهم، بل إن مئات الآلاف من السلفيين وملايين الصوفيين سيتجاوزون سريعا خلافاتهم الفقهية لمصلحة الانتصار لقيمة الإسلام كما تمثلها وسطية مرشح (الإخوان)، في مواجهة أي مرشح ديمقراطي أو ليبرالي أو علماني، في مواجهة المرشح القبطي والمرشحة الأنثى، وفي مواجهة أعداء الثورة من بقايا الحزب الحاكم بنفس درجة الحماس لمواجهة الثوريين أنفسهم».

المثير للرثاء أن بعض المثقفين الرصينين في مصر ساهموا في بناء هذه الصورة المزورة، وباشروا حملة تبييض سمعة «الإخوان» وشيطنة السلفيين فقط، فهذا هو المفكر المصري المعروف جابر عصفور، الذي كانت له فصول سريعة التقلب مع الأحداث الأخيرة، يقول في مقالة له عن السلفية، كتبها السبت الماضي بجريدة «أخبار اليوم» عن أن السلفيين هم من جلبوا لمصر التخلف والتعصب والاقتصاد الإسلامي والطب الإسلامي، بل يقول بالنص: «وبعيدا عن أسلمة العلوم التي استوردناها من الفكر الوهابي ومن مشايخ الإسلام في حكم ضياء الحق».

وهنا أستوقف الدكتور «الباحث المفكر»، أما القول بأن السلفية كما نعرفها الآن متزمتة، فلا جدال في ذلك، بالنسبة لي، وأما أن السلفية «الوهابية» كما تقول هي التي «أسلمت العلوم» واخترعت الاقتصاد الإسلامي فهذا تزوير للتاريخ والواقع، وكلنا نعرف أن السلفية البسيطة لم تكن أصلا معنية بهذه الأمور، بل الذين كانوا معنيين بها باعتبار أن «الإسلام دين ودولة» كما هو شعار حسن البنا، هم الإخوان المسلمون ومن يدور في فلكهم، من (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) الذي كان في ماليزيا ثم انتقل إلى فرجينيا، وهو المعهد الذي كان محض فكرة أسلمة العلوم و«إسلامية المعرفة»، إلى فكرة الاقتصاد الإسلامي التي كان رعاتها كلهم من خارج المحضن السلفي الوهابي، وساهم المفكرون الإسلاميون «الإخوان» في مصر بنصيب وافر في خلق هذا الاقتصاد الإسلامي، وليس المجال هنا للتفصيل في ذلك.

الإخوان المسلمون هم من أطعم السلفية البسيطة حبوب السياسة والعصرنة.

يقول الباحث المغربي محمد نبيل ملين، في كتابه المهم «علماء الإسلام» الذي أعده عن الطبقة الدينية في السعودية، وهو رسالة دكتوراه قدمت لإحدى الجامعات الأميركية، يقول متحدثا عن لحظة الصدام بين المؤسسة الدينية السعودية وتيار «الصحوة» الإسلامي الحركي، في مرحلة غزو صدام للكويت 1990: «وقد صدم الإسلاميون السعوديون وكان قسم منهم يستند في كثير من أفكاره إلى التوليف بين الإقصائية الحنبلية الوهابية للقرن التاسع عشر وبين المواقف المعادية للإمبريالية ونظرية المؤامرة لجماعة الإخوان المسلمين، من موقف السلطة السياسية والمؤسسة الدينية» ص371. رغم علمي بوجود تحفظات سعودية معينة على وصف الوهابية.

ويقول المؤلف أيضا متحدثا عن تنظيم القاعدة وأنه رغم استعانته بعناصر من عقيدة الولاء والبراء لكن: «تنظيم القاعدة وذيوله لا يفضلون مذهبا بعينه في المجال الفقهي، ويتبعون في المجال السياسي، بوعي أو من دون وعي، آيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة التيار القطبي فيها، فأسامة بن لادن تربى تقريبا في أحضان جماعة الإخوان المسلمين» ص 379.

وفعلا أسامة هو في النهاية منتج إخواني قطبي، مع بهارات سلفية، وأبو محمد المقدسي استعان بالسلفية لتحقيق مضمون تراثي مؤصل لفكرة إخوانية قطبية فكرة «الحاكمية» التي تمحور عليها خطاب سيد قطب.

ما يراد قوله في الخاتمة، هو أنه من المعيب علميا وأخلاقيا، أن نتحول فجأة إلى وجهة واحدة ناسين أو متناسين كل الكلام النقدي الذي كان يقوله لنا نفس هؤلاء الناقدين «الحصريين» للسلفية الآن، عن «أم» الحركات الأصولية المعاصرة أعني الإخوان المسلمين، فقط لأن «الإخوان» أصبح لهم سيف ودنانير سياسية في هذه المرحلة، ونصب نقدنا فقط على التيار السلفي، رغم أن مسمى السلفية نفسه فيه غموض منهجي وتاريخي كبير كما أشار بحق الباحث محمد ملين.

لو كانوا منصفين لقالوا الآن، وبوضوح: لا فرق بين السلفيين و«الإخوان» إلا في الدرجة وليس في النوع، وفي تقديري الخاص أن مرض «الإخوان» أعمق وأشرس من علة السلفيين، رغم أن الألم السلفي أوجع، لكنه ليس عميقا ولا عنيدا..!