مصراتة.. ليست نهر البارد بل سراييفو

TT

منذ اندلاع الانتفاضة الليبية أصبح سيف الإسلام القذافي صوت أبيه الذي بات لا يظهر كثيرا خوفا من أن يطاله قصف «الناتو»، أو تستهدفه مجموعة من الثوار أو المتعاطفين معهم، أو يغتاله أحد الساخطين على نظامه. العقيد معمر القذافي، كما حدثنا بنفسه، ليس لديه منصب لكي يستقيل منه، فهو حاكم مطلق بلا منصب محدد، بل بألقاب كثيرة ليس من بينها لقب الرئيس، فهو يحب أن ينادى بـ«القائد»، ويسعد بأن يقول عن نفسه عميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا. والاستقالة في نظره غير ممكنة، وبالتالي فهو يقاتل من أجل «السلطة المعنوية»، كما يسميها، ويقتل شعبه لكي تبقى السلطة محصورة في «خيمته». أما سيف الإسلام فلا منصب رسميا له، سوى أنه ابن العقيد، والطامح لخلافة أبيه. لذلك نراه تخلى عن صورة «الإصلاحي» التي حاول أن يرسمها لنفسه، وكشف عن وجه دموي عندما رأى حلمه في خلافة أبيه يكاد يتلاشى.

في حديث مطول أدلى به لصحيفة «الواشنطن بوست» الأميركية، نشر الأسبوع الماضي، كشف سيف الإسلام عن كل تناقضات النظام الليبي، فهو تارة يقول إن ليبيا ستتحول مثل الصومال إذا رحل أبوه الآن، وتارة أخرى يقول إنهم يريدون من الغرب أن يوقف عملياته العسكرية ضد النظام لكي يتم إقرار دستور جديد جاهز في هذه اللحظة ينتخب بمقتضاه رئيس وزراء ورئيس للبلاد، ويبقى العقيد القذافي «شخصية رمزية». بمعنى آخر سيحتفظ العقيد بالسلطة المعنوية أو الرمزية أو المرجعية، التي حكم بها نحو اثنين وأربعين عاما. وإذا لم يقبل الثوار هذه الصيغة، ويوقف «الناتو» عملياته العسكرية وملاحقة العقيد القذافي، فإن سيف الإسلام يقول: «سنقاتل جميعا دفاعا عنه»، ليس عن ليبيا؛ لكن «عنه».

هذه هي صيغة سيف الإسلام للحل، ونظريته للحكم التي يقول إنها ستجعل ليبيا مثل سويسرا. نعم سويسرا التي شن عليها النظام الليبي حملة شعواء وصلت إلى حد المقاطعة والقطيعة، ودعوة العقيد القذافي المسلمين إلى الجهاد ضدها بعد أزمة اعتقال ابنه هانيبال (هنيبعل) وزوجته هناك بسبب شكوى من عاملين قالا إنهما تعرضا للضرب وسوء المعاملة.

سيف الإسلام مثل أبيه، يريد سحق «الإرهابيين» الذين يقاتلون ضد النظام، قبل تطبيق الحل الذي يتحدث عنه. فما يحدث في ليبيا ليس ثورة شعب ضد الكبت والقهر، وضد حكم استبدادي استمر نحو اثنين وأربعين عاما، بل هو في نظر العقيد وابنه عمليات يقوم بها إرهابيون وعصابات مسلحة. والحصار الشرس على مصراتة هو حصار للقضاء على «الإرهابيين وعناصر (القاعدة)». فالعقيد القذافي يقول إن ما تقوم به قواته هو مثل ما قامت به القوات الأميركية في الفلوجة، أو ما فعله الجيش الروسي في غروزني. أما سيف الإسلام فيؤكد على كلام أبيه ويقول لمراسل صحيفة «واشنطن بوست»: «هل تعلم ماذا حدث في مصراتة؟ إنه بالضبط ما حدث في مخيم نهر البارد في طرابلس بلبنان. شن الجيش اللبناني هجوما على أربعة أحياء سكنية في طرابلس لمحاربة تنظيم جند الشام وجند الإسلام الإرهابيين في لبنان. لقد دمروا نصف المدينة ولم يقتلوا مدنيين، فقد كانوا يحاربون الإرهابيين لأنهم كانوا يختبئون داخل البنايات». إذن؛ يعترف سيف الإسلام بأن كتائب إخوانه دمرت نصف مصراتة، لكنه ينكر أن يكونوا قتلوا مدنيين. لقد أدمن النظام الليبي على الأكاذيب طوال أحداث الثورة الراهنة في ليبيا، ولم ينس المراسلون الأجانب كيف قال العقيد القذافي لمراسل الـ«بي بي سي» الذي سأله عن المظاهرات وقتها في طرابلس، ليست هناك أي مظاهرات، وعندما أصر المراسل على أنه شاهد المظاهرات بنفسه، فاجأه القذافي بالقول: «إنها مظاهرات لتأييدنا، فكل الليبيين يحبوننا».

إن مصراتة ليست غروزني ولا الفلوجة، وهي حتما ليست نهر البارد، بل هي سراييفو الليبية. فقوات النظام تحاصر المدينة وتقطع عنها كل الخدمات والإمدادات، وتقصفها بكل أنواع الأسلحة الثقيلة، مستخدمة أبشع الأساليب بما في ذلك القنابل الانشطارية؛ بشهادة المنظمات الدولية. ويبدو أن نظام العقيد القذافي لا يجند فقط مرتزقة من صربيا من بين من جندهم، بل يستخدم أيضا تكتيكاتهم في حرب المدن وحصارها. ففي حصار سراييفو، الذي استمر 44 شهرا، دك الصرب سراييفو بالقصف المدفعي والصاروخي، واستخدموا القناصة لمنع الحركة في المدينة واصطياد كل من يظهر في مدى نيران القناصة؛ وأدى ذلك الحصار البشع إلى مقتل نحو عشرة آلاف شخص من بينهم 1500 طفل، بينما جرح 56 ألفا من بينهم 15 ألف طفل. كان الناس يقتلون بالقصف العشوائي وهم في مساكنهم أو في الشوارع أثناء محاولتهم الحصول على ما يسدون به الرمق، بينما يموت الأطفال وهم يلعبون أمام منازلهم أو أثناء خروجهم مع أمهاتهم في رحلة البحث عن غذاء أو دواء.

في مصراتة المحاصرة منذ أكثر من شهرين تقصف كتائب القذافي المدينة عشوائيا محدثة دمارا هائلا، وموقعة أعدادا كبيرة من الضحايا، بل إنها قتلت بقذائفها حتى الأطفال وهم يلعبون، واستخدمت أسلوب القناصة لخنق المدينة ومنع الناس من الحركة، مستعيرة بذلك الأساليب التي استخدمت في حصار سراييفو الذي هز الضمير العالمي. وعندما يقول النظام الليبي اليوم إن قواته انسحبت وإنه سيترك الأمور للقبائل لحسمها، فهو يستعير ورقة استخدمت في حرب البوسنة، إذ كان الجيش اليوغوسلافي قد زعم في بداية الحرب أنه انسحب، بينما كان كل ما حدث هو أن أعدادا من الجنود بدلوا شاراتهم العسكرية وبدأوا يقاتلون على أساس أنهم جيش جمهورية البوسنة. وكتائب القذافي التي تحاصر مصراتة ستنزع ملابسها العسكرية وتقاتل بزي مدني لكي تقول إن رجال القبائل هم الذين يقاتلون، فيصعب على طائرات «الناتو» التمييز بين المقاتلين، وحتى إذا تمكنت من تحديد وضرب جنود القذافي فسوف يزعم النظام الليبي وقتها أنها قتلت مدنيين من القبائل لا عسكريين من الكتائب.

لقد شاهد العالم صور الجرائم التي ترتكب في مصراتة الصامدة، وسجلت المنظمات الدولية الانتهاكات التي تحدث هناك، وتشكل إدانة دامغة للنظام الليبي وتدحض ادعاءاته، وربما تقدم مبررا لمحاكمة رجالاته. فالنظام الذي يقتل مواطنيه بمثل هذه البشاعة لا يجب أن يمنح حصانة، بل يجب أن يحاكم.