دروس قرار الهيئة العليا للانتخابات في تركيا

TT

قرار الهيئة العليا للانتخابات في تركيا برفض طلبات ترشيح 12 مستقلا، غالبيتهم ينتمون إلى حزب السلام والديمقراطية المعروف بشعبيته الواسعة في صفوف الأكراد، ثم تراجعها عن هذا القرار بعد أيام، كان بمثابة الامتحان الصعب للجميع في تركيا. قد تكون أنقرة خرجت من قطوع خطير، وأخمد ملف القضية، لكننا لا نعرف متى وكيف وأين ستنفجر ملفات أخرى مشابهة تذكرنا بالأيام الثلاثة التي عاشتها المدن التركية في فترة ما بين القرارين وكانت كافية لتفجير الوضع الأمني والسياسي ولإظهار حساسية المسألة الكردية التي تنتظر من يتعامل معها بشجاعة وحكمة على طريق المعالجة والحل؟

قرار الهيئة العليا للانتخابات، وما أعقبه من توتر وعنف ذكرنا مرة أخرى بجدية المسألة الكردية في تركيا وعمقها وتشعبها داخل المجتمع والدولة، وعلى الرغم من أن حزب السلام والديمقراطية أعلن أنه يقود حملة الاعتراض والتعبير عن حقه الديمقراطي فإن الترجمة الفورية على الأرض كانت غير ذلك.

رئيس حزب السلام والديمقراطية صلاح الدين دميرطاش هدد بمقاطعة الانتخابات في المناطق الكردية ووصف ما جرى بأنه دعوة مباشرة للتخلي عن لغة الحوار وإجبار الناس على الصعود إلى الجبال للاستمرار في حمل السلاح، لكن 3 أيام كانت كافية لقول أكثر من ذلك، كانت كافية لإظهار حجم الاحتقان ورغبة البعض في اللجوء إلى الشارع لإضرام النار في الأبنية والممتلكات العامة والخاصة وتهديد أرواح المدنيين في أكثر من مدينة باسم رد الفعل وحرية التعبير. الكثيرون انتقدوا الهيئة العليا للانتخابات وحملوها مسؤولية عدم إدراك مخلفات وانعكاسات قرارها هذا، لكن سيناريو عدم تراجعها عن قرارها الأول في رفض طلبات الترشيح وتصلبها في مواقفها كان سيقودنا هنا إلى الكتابة حول عشرات القتلى والجرحى وملايين الدولارات من الخسائر والأضرار وحجم الانشقاق والهوة بين أتراك تركيا وأكرادها وعمق الجرح الواجب تضميده.

قرار الهيئة ربما كان مسألة قانونية أو تقنية تخلت عنه مع اكتمال الأوراق التي طلبتها من المرشحين، لكنه كان سيتحول إلى فرصة إشعال فتيل التفجير الأمني والسياسي وتهديد عملية الانتخابات البرلمانية المنتظرة في 12 يونيو (حزيران) المقبل، خصوصا أن مواقف وتصريحات تنسب إلى عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في أيمرالي تتحدث عن تاريخ 15 يونيو المقبل، كنقطة فاصلة بين التعامل بجدية أكثر مع المسألة الكردية ومطالب الأكراد في تركيا، وبين إنهاء حالة وقف النار التي أعلنها حزب العمال من جانب واحد.

قرار الهيئة الأخير بالتراجع عن موقفها برفض طلبات الترشيح، منح القيادات السياسية الكردية المزيد من القوة الشعبية والسياسية، لكننا لا نعرف بعد ما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيدفع ثمنا في صفوف قواعده الشعبية والانتخابية الكردية على الرغم من مواقف قيادات الحزب التي تحدثت، هي الأخرى، عن مؤامرة تستهدفها من وراء هذا التفجير المقصود، الذي حسم بانتصار الديمقراطية، كما تقول.

الكابوس الذي عاشته تركيا مؤخرا في هذا الاتجاه كشف النقاب عن جملة من الحقائق في الموضوع الكردي يتقدمها:

- حقيقة أن المدافعين عن هذه المسألة نجحوا في الأعوام الأخيرة في فرض تغيير طريقة تعريفها والتعامل بواقعية مع حجم تأثيرها وارتداداتها السلبية على الجميع في المنطقة، إذا لم يتم الإصغاء إلى مطالبها وتطلعاتها بجدية واهتمام.

- وأنه على الرغم من دفع الأمور نحو المزيد من القطبية بين شرائح المجتمع التركي، فالقضية الكردية تتحول يوما بعد الآخر إلى قضية منطقة بأكملها، وليس مجرد قضية بلدان وحكومات تتعامل مباشرة مع هذا الملف.

- وأن حكومة العدالة والتنمية حصدت الكثير من النتائج الإيجابية من خلال طريقة تعاملها مع هذه المسألة وانفتاحها على قيادات شمال العراق سياسيا واقتصاديا، لكنها ما زالت أمام تقديم الكثير في الداخل، فالإصلاحات السياسية والثقافية والتعليمية والتخلي عن وصف المسألة بأنها مجرد «أمنية» لن تطمئن ملايين الأكراد في تركيا الذين يريدون المزيد.

مرة أخرى ثبت لنا أن تركيا لا تتحمل المزاح في مسألة من هذا النوع، وأن الفاتورة ستكون أكبر مما يتصور الجميع ما لم تجر عملية جدية لامتصاص الاحتقان وحالة التأهب الدائم للخروج إلى الشارع وتفجير الوضع الأمني والسياسي. وثبت أيضا من خلال نظرة خاطفة على برامج الأحزاب السياسية ومواقفها والحلول التي تطرحها للتعامل مع القضية الكردية أن ما تقدمه لن يرضي كثيرا القيادات الكردية، وأن العدالة والتنمية هو الأكثر شجاعة واندفاعا بينها، للاقتراب من ألسنة اللهب في محاولة لإخماد الحريق.