السلطة.. والسياسة المصرية الجديدة

TT

أهم درس، آمل أن يتعلمه السياسيون الفلسطينيون، في زمن الثورات العربية، هو أنهم لا بد أن يجدوا أنفسهم، وربما لأول مرة، أمام حالة غير مسبوقة من الانشغال العربي عنهم، مما يستوجب التصرف في أكثر المراحل السياسية إحراجا وتعقيدا، بقدر أكبر من الاعتماد على النفس، وسلوك مواقف وسياسات لا تعرضهم لدفع أثمان باهظة.

لقد قامت السياسة الفلسطينية المرنة والمعتدلة على أرض قوية من العلاقات والتحالفات.. كانت مصر فيها بمثابة حجر الزاوية، ومن حول مصر كانت جامعة الدول العربية، وكذلك لجنة المتابعة، وبصرف النظر عن التمايزات في المواقف التي كانت تظهر، داخل الجامعة العربية وحتى داخل لجنة المتابعة، إلا أن الحلف الفلسطيني - المصري كان قادرا على أخذ القرار الذي يريد، سواء أكان القرار يهدف إلى تغطية خطوات تبدو محرجة أو إشكالية، أم كان داعما لاتجاه معين يحتاج فيه الفلسطينيون إلى رافعة عربية لتحسين أوضاعهم، ولو معنويا، أمام الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من دول العالم المعنية بالأوضاع في الشرق الأوسط.

وكذلك، كان التحالف المصري - الفلسطيني قد أسس لسياسة منسجمة فيما يتصل بمعضلة الانقسام.. فكان الثقل المصري بمثابة جدار استنادي بالغ الأهمية اتكأت عليه السلطة في سعيها لاستعادة الوحدة وتحجيم أثر الانقسام؛ حيث استعصت، إلى حد الاستحالة، فرص إنهائه خلال الأعوام الأربعة الماضية.. ولعل أبرز ما يشكل البرهان الساطع على قوة اعتماد الطرف الفلسطيني على الدبلوماسية المصرية، وقوة تأثيرها، الزيارات المنتظمة التي كان يقوم بها الرئيس محمود عباس لمصر، والتي زادت على أربعين زيارة خلال السنوات القليلة الماضية، إضافة إلى الجهود المضنية التي كان يبذلها الوزير عمر سليمان، سواء في أمر العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية أو في ملف الحوار الفلسطيني - الفلسطيني.

إن اهتمام مصر بالشأن الفلسطيني لن يفتر ولن يتراجع، لا بسبب الانشغال في قضايا ما بعد الثورة، مع أنها قضايا قوية وشائكة، ولا بسبب اليأس من إحراز خلاصات حاسمة في أمر عملية السلام أو ملف الحوار، إلا أن هذا الاهتمام بدأ يتخذ أشكالا ومسارات أخرى، أجتهد في تحديدها على النحو التالي:

فيما يتصل بالعملية السياسية مع إسرائيل، فإن الدبلوماسية المصرية، كما أفصح رئيسها الوزير نبيل العربي، بدأت تطرح فكرة المؤتمر الدولي لبلوغ حل سياسي ناجع وشامل، بدلا من إضاعة الوقت في إدارة الصراع على الطريقة الراهنة، والاستغراق في تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر، وفكرة المؤتمر الدولي التي أعيد طرحها بعد سبات طويل تشكل اجتهادا جديدا مغايرا لفكرة توليد دولة فلسطينية من خلال الأمم المتحدة كما يجتهد الفلسطينيون ويثابرون، كما هي بالتأكيد متعارضة على نحو كبير مع الطريقة الأميركية في العمل؛ حيث تفضيل المفاوضات المباشرة على المسارات، كل على حدة، وهي طريقة تجمع عليها دول أوروبا كذلك، على الرغم من الاختلاف في درجة حرارة المواقف الأوروبية - الأميركية.

إن الفكرة المصرية الجديدة ربما تكون، سياسيا ومنطقيا، هي الأقرب والأكثر واقعية، بل وإمكانية، إذا نظر لعملية السلام المتعثرة من زاوية تعديل مسارها جوهريا، وليس من الزاوية التي ينطلق منها الأميركيون، والتي يقع المؤتمر الدولي فيها كتجمع احتفالي.. إما للإعلان عن أن عملية السلام لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعدُ، مثلما حدث في أنابوليس، وإما لحشد مؤيدين للمفاوضات الثنائية المباشرة، وحتى الآن وعلى الرغم من أن الاجتهاد الأميركي في شأن الحل السياسي وصل إلى حد الاعتراف الصريح باستحالة بلوغ حل إلا إذا كانت سورية شريكة فيه، فإن فكرة المؤتمر الدولي بالمنظور المصري الجديد لا تزال بعيدة عن التداول الأميركي، بل إنها بحاجة إلى جهد عربي ودولي دؤوب ومصمم حتى تعود إلى التداول مثلما كانت قبل زمن كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وحتى واي ريفر السوري.

وفيما يتصل بملف المصالحة الفلسطينية، فقد وضعت مصر مؤخرا النقاط على الحروف، إنها ستتخذ ما يمليه عليها واجبها الوطني والقومي والدولي، ستدعم وترعى، إلا أنها لن تشارك في الجهد مثلما كان الأمر في الحقبة الماضية، لقد حددت مصر رؤيتها على قاعدة «ما حك جلدك مثل ظفرك»، فبعد تجربة طويلة ومريرة، لم يتقدم ملف المصالحة أي خطوات إلى الأمام طيلة أربع سنوات حفلت بجهد متواصل تفرغت له القيادة الفلسطينية من دون فتور أو توقف.

إن مصر الجديدة قالت للفلسطينيين: سنظل معكم، لكن إن لم تتوصلوا أنتم لاتفاق تنهون به حالة الانقسام، فإن مصر لن تكون بديلة عنكم ولن يكون بعد اليوم حوار من أجل الحوار على أرض مصر، فلديكم غزة ورام الله تحاورا فيهما وسنكون أول المرحبين والمحتفلين بالنجاح.

لقد جددت مصر تظهير سياساتها تجاه هذين الأمرين الحيويين، واضعة النقاط على الحروف.. وعلى الفلسطينيين أن يقرأوا المواقف المصرية جيدا.. وأن يبنوا عليها سياساتهم الراهنة والمستقبلية.