سورية.. لعبة الأقواس والثنائيات

TT

أن يظل حزب واحد يهيمن على سدة الحكم لمدة تقترب من نصف قرن، مع كونه معبرا في الأصل عن أقلية حاكمة تواجه أكثرية محكومة ومتجانسة اجتماعيا، لا يمكن إرجاعه فقط إلى تفوق القبضة الأمنية حتى ما يشبه الأساطير مما يروى عن قوتها وتغلغلها وسطوتها ولا يشفع في توضيح معالم الصورة.

السؤال إذن ليس عن صمود أو سر بقاء النظام السوري بقدر السؤال عن سورية خارج أقواس «البعث» و«الشعارت» و«المقاومة» و«التمدد الإيراني» وكل أقواس تفحت جملا مشروطة بواقع الجغرافيا والتاريخ والآيديولوجيا؛ فالجغرافيا، حيث الجولان، الورقة التي دفعت المجتمع الدولي وإسرائيل إلى التعامل مع سورية بحذر شديد، كما قايضت الأخيرة الأطراف كلها بهذه الورقة المفصلية في طريقة إدارة السياسة الخارجية، أما التاريخ فالتحولات التي عاشتها المنطقة حول قضيتها المركزية والنرجسية إذا ما رمنا البعد النفسي دفعت بسورية إلى صف المواجهة وتبني خط الدفاع الأول نظريا مع تعزيز ذلك التبني النظري المبني على تراث هائل من القومية والتفكير العروبي الذي قتلته أدبيات حزب البعث بحثا وتنقيبا واستشهادا بتبني فصائل المقاومة بكل تنوعاتها من العنفية إلى الثورية إلى الإسلامية وحتى مشروع شبه الدولة الذي يمثله ثقل حزب الله بفضل التبني السوري، وربما كانت أقواس «الآيديولوجيا» التي تمثلها مقولات وأفكار حزب البعث الأكثر هشاشة بحكم حالة الموات التي عاشها الحزب وأفكاره، إلا أن التبني السوري للفكرة البعثية وطريقة فهمها وتأويلها كانا أقرب إلى الوجدان الشعبي القومي منها لفكرة البعث الفوقية التي كان قد تمثلها نظام صدام حسين يومذاك.

لعبة الأقواس السورية لم تكن أكثر تناقضا من رهان النظام السوري على الثنائيات المتناقضة حينا والمتصارعة أخرى؛ فثمة ثنائية الداخل والخارج حيث الخطاب الأحادي الذي قسر عليه الشعب السوري على مدى تلك الفترة وخطاب الخارج المرحلي والتفاوضي الذي سعى في فترة كثيرة لأن يكون مايسترو الإيقاع بين رعونة فصائل المقاومة وردود فعلها، وبين ضغط الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الغربيين الذين كانوا في براغماتية فجة، لكنها متفهمة في عالم السياسة، يراهنون على قدرة النظام السوري على عقلنة حلفائه متى ما ترك لقبضته الأمنية وملفه في سجل حقوق الإنسان أن يعبثا في الداخل، عبر الاعتقال والسجن والتعذيب الذي رفد أدب السجون العربي بنصوص في غاية المأساة، لكن تلك القبضة حذرة ومراوغة وتلعب على تكنيك الخطاب الشمولي إذا امتدت أطرافها إلى أي مسألة خارجية.

وبإزاء ثنائية الداخل والخارج، هناك ثنائية المقاومة والمهادنة التي يجابه بها النظام السوري بقية الأنظمة العربية ويبتزها بها أخلاقيا، فمن ينوء بعبء المقاومة فكرا واستضافة وتحملا للعواقب عادة ما يتم التعامل معه في اللاوعي الجمعي كجبهة صمود يغفر لها ما لا يصفح عنه لغيرها، وإذا كانت تلك الثنائيات قد تم ابتلاعها في السياق العربي العام، سواء في دول الطوق أو دول الخليج في فترة ما، فإن ثنائية الحليف وغير الحليف، وهي تعني تماهي النظام السوري في الخيار الإيراني، وبالتبع لخيار حزب الله في الداخل اللبناني، في مقابل غير الحلفاء ممن لديهم موقف مبدئي من التمدد الإيراني، هذه الثنائية كانت نقطة تحول في علاقة النظام السوري وعزلته على المستوى العربي، كما كانت ثنائية المقاوم والمهادن سبب هجائه خارجيا وعزله عن المجتمع الدولي، صحيح جدا أن النظام السوري قد حقق مكتسبات بذلك التحالف مع إيران، الذي توسع في السنوات الأخيرة لما يشبه «الحلول والاتحاد» في العقيدة الصوفية، إلا أن تلك المكتسبات، كما هو الحال في فكرة الحلول السياسي، تقوى وتضعف بحسب قوة موقع إيران التفاوضي.

والآن بعد أن لقي المئات حتفهم في سورية، ما الذي يمكن أن نتوقعه في ظل معطيات جديدة أفرزها الواقع وقفز بها على لعبة الثنائيات؟

يمكن القول بداية: إن حجم الضحايا كبير، فهو رقم ضخم في السياق السوري، يقال هذا عطفا على تفرد النظام الليبي منذ اندلاع الثورات الناعمة في كسر الأرقام القياسية في بشاعة وحجم الدمار الإنساني والعمراني الذي خلفه، إلا أنه ضمن سياق متوقع سلفا في بلد مثل ليبيا وغير متصور أبدا في سياق كسورية؛ حيث تركيبة المجتمع ذي الأغلبية المتجانسة التي تستلهم روح العائلة في الأزمات، مما يجعلها تتفوق على قوة القبضة الأمنية.

أعتقد أن فرصة النظام السوري الوحيدة هي في قبول وساطة عربية أو تركية أو لهما معا وفك الارتباط على الأقل، ولو مرحليا، بالتحالفات والتفكير في الداخل، وإلا فإن شبح الطائفية والتمزقات الاجتماعية الحادة ستأخذ طريقها في التشكل سريعا وربما أسرع مما يتوقع الجميع، وكلنا يدرك جيدا ما يمكن أن تفعله استقطابات من هذا النوع في حال وجود فراغ سياسي سيكون أسوأ وأكثر ارتباكا مما حل بالعراق بعد عام 2003، فالمعارضة السورية مهما حاولت الدول الغربية الآن دعمها ونفخها لن تكون بديلا جاهزا خلال فترات وجيزة، لا سيما في دولة عاشت على إيقاع الحزب الواحد لفترة طويلة، وتم التعامل مع المعارضين كملاحقين أمنيين، مما أضعف اندماجهم في العمل السياسي في الداخل أو حتى الاستفادة من مكوثهم في الخارج لبناء أحزاب معارضة قوية وليس مجرد أوراق ضغط يتم استخدامها من حين لآخر.

التحدي الكبير للنظام في سورية هو إقناع الأكثرية بصدق نوايا الأقلية، وأنها تريد التغيير الحقيقي وتقديم ضمانات لممارسة سياسية حقيقية وتبني ملفات إصلاحية للحقوق والحريات في ظل انتعاش اقتصادي ومعدل نمو مقبول وفق الظروف السورية.

والتحدي الأكبر في أن يقبل المجتمع الدولي، في ظل ضمانات عربية وتركية، إعطاء الفرصة الأخيرة، وبالتالي قسر إسرائيل على عدم التدخل في الشأن السوري الداخلي وإتاحة الفرصة لعملية بناء الديمقراطية ضمن شروط صحية تضمن بقاءها عبر مؤسسات قوية تمثل جميع أطياف وتنوعات المجتمع.

البداية مع خطاب سوري متعقلن يعترف بالمشكلة ويقر بأن الإعلام الثوري لا يلائم خطاب العولمة والإعلام الجديد الذي لا يلتفت كثيرا إلى مدى البلاغة والفصاحة قدر التفاته إلى الأرقام أو ما يسميه آخرون عقيدة «بلومبيرغ» ذلك الذي «ينفع الناس ويمكث في الأرض».