لماذا تأخر وصول «الثورات العربية» إلى غزة والضفة الغربية؟!

TT

أكثر من مستغرب وأكثر من لافت للنظر ألا تغشى أمواج هذا الـ«تسونامي» السياسي، الذي ضرب ويضرب المنطقة، الحالة الفلسطينية، وكأن «الأرحام غدت قاحلة»، وكأن هذا الشعب الذي بقي الصاعق والمفجر لكل الأحداث السياسية العربية قد تبدل، أو أنه أصبح مدجنا، مع أن الأولى أن يكون هو طليعة هذه الثورة المزمجرة التي باتت تنتقل من دولة عربية إلى دولة عربية أخرى؛ فقضيته، التي هي قضية العرب كلهم، هي مفجرة الثورات وهي مبرر كل الانقلابات العسكرية التي بقيت تتواصل منذ نهايات عقد أربعينات القرن الماضي وحتى انقلاب حماس الأخير في غزة.

الشواهد كلها تدل وتؤكد أن الوضع الفلسطيني، وبخاصة في غزة، بعد انفراد حماس بحكمها، بات يشبه بحيرة راكدة، وأن الشبان الفلسطينيين في الضفة الغربية و«القطاع» غدوا غير مقتنعين بما هو قائم، وهذا كان يجب أن يتبلور في هيئة حركة شعبية عارمة تجدد الحياة السياسية الفلسطينية وتقضي على هذا الترهل وعلى هذا الفساد الموروث الذي تجاوز الحدود كلها، وتقضي أيضا على هذا الانقسام المعيب والمخزي الذي تكشف مؤخرا عن أن وراءه رغبة، بل مؤامرة إسرائيلية، للتهرب من استحقاق عملية السلام والتسلح بحجة أنه لا يوجد ذلك الطرف الفلسطيني المخول الذي من الممكن مفاوضته.

كان المفترض أن تسبق الانتفاضة الفلسطينية انتفاضة تونس وانتفاضة مصر والانتفاضات العربية الأخرى كلها، فالشعب الفلسطيني صاحب تجربة، ثم إن ألم الاحتلال كان يجب أن يوقظ الثأر في صدور الشبان الفلسطينيين قبل أن يوقظ قمع نظام زين العابدين بن علي الثأر النائم في صدور شبان تونس الخضراء ويوقظ ترهل نظام حسني مبارك وفساده شبان بلاد النيل، فالفلسطينيون الذين عانوا ما لم يعانه شعب عربي آخر أولى بأن يحتلوا الساحات والميادين، وأولها ميدان الكتيبة في غزة، وأن يتظاهروا ويطالبوا بـ«الإصلاح والتغيير» وبالمصالحة الوطنية وبانتخابات رئاسية وتشريعية شفافة من دون أي تزوير.

إن هذا الحكم القائم في قطاع غزة، المستمد من تجربة حركة طالبان البائسة في أفغانستان، الذي جاء نتيجة أول انقلاب عسكري دموي في الحالة الفلسطينية وبدعم من إيران، يحتاج إلى ألف إصلاح وألف تغيير، فهو الأنموذج الأسوأ لدولة المستقبل التي يحلم بها الشعب الفلسطيني، وهو لم يعد محتملا ولا مقبولا حتى من الناس الذين رحبوا به قبل نحو خمسة أعوام وصدقوا أنه سيخلصهم من سلف أسوأ عنوانه مجموعة من الفاسدين الذين شكلوا عبئا كبيرا على «الثورة» وهي في الخارج وعبئا أكبر على السلطة الوطنية التي بقيت حائرة بين وضعية الثورة ووضعية الدولة.

وعلى افتراض أن دور انتفاضة الشباب العرب وصل إلى قطاع غزة غدا أو بعد غد، على اعتبار أنها تمثل الحالة الفلسطينية الأكثر بؤسا والأشد سوءا، التي هي بحاجة إلى إنقاذ سريع لا يتمثل بالتغيير والإصلاح فقط وإنما بالاقتلاع من الجذور، فإنه غير مضمون ألا تواجه أي محاولة، على هذا الصعيد، بالحديد والنار، وبإسالة أنهار من الدماء الزكية؛ فهؤلاء الذين يحكمون هناك أصحاب سوابق في القتل والقمع، وهم كانوا قد منعوا اعتصامات شبابية في «ميدان الكتيبة» كانت تطالبهم وتطالب حركة فتح وحكومة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) في رام الله بالعودة عن الانقسام وضرورة استعادة الوحدة الوطنية.

لا يمكن أن تفرط حركة حماس بهذا «الأمر» الذي كانت في أشد اللهفة إليه، والذي من غير الممكن أن تتخلى عنه بطيب خاطر، بل وهي ستفعل أكثر مما فعله معمر القذافي بآلاف المرات حتى تبقى تحتفظ بهذه السلطة البائسة وبهذا الحكم الذي «لا يسر الصديق ولا يغيض العدا»، لكن مع ذلك، فإنه من المنتظر أن تنفجر الأوضاع في غزة في هيئة ارتداد زلزالي لكل هذا الذي يجري في المنطقة وحيث من العار والعيب أن يبتلع زعيم «حركة مجاهدة» تنشد الحرية لشعبها ولكل شعوب الأرض، هو خالد مشعل، لسانه ويمتنع عن استنكار ولو خافتا وخجولا لما يجري في سورية، والسبب بالطبع هو ديكتاتورية الإقامة في دمشق الشام، وهو استمرار تصديق كذبة أن هناك «ممانعة» و«مقاومة»، وهو أيضا الإشارة التي وصلت من طهران فور بدء احتجاجات ومظاهرات درعا التي عنوانها: «اطعم الفم تستحي العين»!!

لا بد من أن يتحرك شباب غزة، ولا بد أيضا من أن يتحرك شباب الضفة الغربية في هيئة انتفاضة ضد الأوضاع المهترئة هنا وهناك، مع الاعتراف بوجود فروقات جوهرية في المظهر والمخبر بين سلام فياض وإسماعيل هنية؛ فالوضع الفلسطيني بحاجة إلى صعقة كهربائية لاذعة وموجعة، والمفترض أن الذين يقاومون الاحتلال أكثر منه ديمقراطية وحريات عامة وأقل منه فسادا وأكثر محاسبة على كل كبيرة وصغيرة؛ لهذا فإن المتوقع أن تنتقل عدوى العرب هذه المرة إلى الفلسطينيين كما كانت قد انتقلت عدوى الثورة الفلسطينية إلى العرب بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967.

لا شك في أن لحركة فتح فضل إطلاق الرصاصة الأولى وتفجير الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولا شك في أنها صانعة «الهوية الوطنية» للشعب الفلسطيني الذي كان أدق توصيف لوضعه قبل انطلاق ثورة الفاتح من عام 1965 رواية الشهيد غسان كنفاني «رجال في الشمس»، ولا شك أيضا في أنها حققت معجزة توحيد هذا الشعب وتحويله من مجموعات من اللاجئين المدمرة معنوياتهم إلى مقاتلين غدوا قدوة لكل شعوب الأرض الطامحة إلى الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية كالكثير من شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن مع ذلك، فإنه لا بد من الإصلاح ولا بد من التغيير.

ثم، ومع أن المقارنة غير جائزة بين حكم فتح في الضفة الغربية؛ حيث هناك استقرار أمني وانتعاش اقتصادي لا بأس به وحياة مجتمعية مدنية وحريات عامة مقبولة وتعددية سياسية معقولة، وحيث هناك حكومة سلام فياض التي تعمل بكفاءة حكومة دولة متقدمة رشيقة وديمقراطية، وبين حكم حماس في قطاع غزة؛ حيث «التعثير» والأداء الرديء والاستبداد وقمع الحريات وكم الأفواه والاقتتال على أنفاق التهريب وعدم القبول بالآخر ورفض سماع أي رأي إلا رأي خالد مشعل الذي هو في موقع الولي الفقيه الإيراني بالنسبة لحركة المقاومة الإسلامية، فإنه لا بد من أن يشمل الإصلاح والتغيير شطري الوطن الممزق، أي: الضفة والقطاع.

ثم إن الأخطر من هذا كله هو أن قطاع غزة تحت حكم حماس أصبح «تورا بورا» ثانية؛ فقد كشف اختطاف الصحافي الإيطالي وذبحه بصورة بشعة تقشعر لها الأبدان عن أن هذه المنطقة غدت ملاذا للكثير من حركات التطرف، وأنه إذا استمرت الأمور على هذا النحو فإن مصر ستدفع ثمنا غاليا لا محالة، وأن خسارة القضية الفلسطينية ستصبح فادحة، وبخاصة أنها على أبواب خطوة تاريخية في غاية الأهمية؛ حيث من المنتظر أن تعترف مائة وعشرون دولة بدولة فلسطين المستقلة المنشودة لدى اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل، وهذا يقتضي إنقاذا سريعا بأن تصل موجة الثورات العربية إلى هذا القطاع الذي هو بحاجة إلى ما هو أكثر من الإصلاح والتغيير.

لقد قدمت حركة فتح، التي أطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة والتي أعطت للشعب الفلسطيني هويته الوطنية، لقضية فلسطين الشيء الكثير، لكن مع ذلك، فإنه قد آن الأوان كي تنتقل من وضعية «الثورة» إلى حالة الدولة، وأن تتحول إلى حزب سياسي، ببرامج عصرية، يستطيع استقطاب قطاع الشباب واستيعاب الأجيال الصاعدة وكل الكفاءات الفلسطينية، وبإمكانه أن يبدأ مشوار الألفية الثالثة بأفق غير أفق الفاتح من عام 1965 وصراع المعسكرات والحرب الباردة.