لا للأرشيف!

TT

وسط شلالات الأحداث السياسية العربية الآتية بغزارة والمتدفقة من كل صوب يجري الحديث «بخجل» شديد عن مرشحي منصب أمانة جامعة الدول العربية، واليوم هذا المنصب فعليا يبدو منحصرا بين شخصين رئيسيين، هما المرشح المصري الدكتور مصطفى الفقي، وهو السياسي الفصيح والمخضرم، والمرشح القطري عبد الرحمن العطية.

مشكلة جامعة الدول العربية أنها جهاز فقد العرب منه الأمل والرجاء، وبات بالنسبة للشعوب العربية منصة خطابة وتسويف للتحديات، وفرصة لقاءات زعامات بين الحين والآخر ولا أكثر. حاول أمينها الحالي عمرو موسى أن يطور في أنظمتها ووتيرة لقاءاتها وأسلوب التعاطي مع المواضيع المطروحة أمامها، إلا أن واقع الحال يقول إن الموضوع لم يكتب له النجاح، ولم تتغير الصورة في أذهان الناس حتى الآن.

وما هو واضح تماما أننا كعرب أمام تاريخ مفصلي جديد، تاريخ كتب وانطلق ولا تزال سطوره متوالية منذ رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وهروبه وتوالي الأحداث بشكل درامي مذهل في مصر وليبيا والأردن واليمن والمغرب والبحرين وسورية والجزائر، وبالتالي لا يمكن التعرض للمنطقة وشعوبها من وجهة نظر «أرشيفية» بحتة. أجد أنه من المحزن أن مصر «الثورة الجديدة» لم تر مرشحا لها سوى الدكتور مصطفى الفقي الذي ينتمي فكريا إلى العهد «ما قبل» القديم.

فهو رجل متحدث ولبق وشديد الكياسة والأدب، ولكنه ناصري بامتياز، وقد يكون هذا مناسبا لحقبة الستينات الميلادية الماضية أيام تقدير الزعيم الخالد والحزب الواحد والإعلام الخامد، ولكن الحقبة الحالية تتطلب إيمانا بتداول السلطة والحقوق والحريات والعدل والمساواة والإعلام الحر والبرلمان السوي والقضاء المستقل، وهي كلها قيم ومعان وأهداف وغايات لم تؤمن بها الحقبة الناصرية التي لم تكرس سوى خطاب مليء بالشعارات الخاوية وواقع مذل ومرير أدى إلى هزائم وسقطات كارثية، وهذه مسائل لا يمكن القبول بعودتها وتبنيها مجددا، بل يجب الطلاق منها بشكل نهائي لأن الثورات العربية التي تقوم اليوم إنما تقوم على تبعات وتركات وإرث جمال عبد الناصر الذي ترك لنا الحكم المستبد والعسكر الحاكم الذي جاء بالفساد والتوريث بأشكاله المختلفة.

هناك العرب القديمة والعرب الجديدة، العرب الجديدة تتطلع إلى مستقبل يسهمون في صناعته بتطوير تشريعاته وأن يكونوا جزءا أساسيا وحيويا من نمط خارطة الطريق الصانعة لكل هذا الطموح المشروع، العرب القديمة كانت تسوق وتروج لشعارات ومعان لا علاقة لها بالواقع، العرب الجديدة تصنع خطا أخلاقيا مسؤولا بشعارات تتبعها أساليب قياس وتطبيق لهذه الشعارات.

الموضوع لا يجب أن يكون بطرح الموضوع بشكل عنصري بحت، بمعنى هل يجب أن يكون أمين جامعة العربية مصريا أو لا يكون؟ ولكن المسألة بأي نوع من الأفكار يأتي هذا الأمين الجديد إلى المنصب هذا، ولذلك جاء اختيار مصر «الثورة الجديدة» للدكتور مصطفى الفقي بمثابة عودة للوراء، عودة لفكر بائد وانتهى بعد أن جلب المشكلات والدمار والاستبداد والتسلط والفساد والمحسوبية والذل والعار والخلافات والفتن.

إذا كان الرهان على مستقبل جديد للعرب بات مسألة واردة ومشروعة فمن باب أولى أن يكون الرهان من خلال بوابة جامعة الدول العربية، وتحديدا في شكل وشخصية الأمين الجديد الذي لا بد أن يعكس هذه الحالة الذهنية الجديدة، وخصوصا إذا كان مرشحا من مصر الدولة الملهمة للحالة الجديدة نفسها!

منصب الأمين العام الجديد اليوم لا يجب أن يكون بمثابة مكافأة نهاية خدمة أو تكريم لنهاية المشوار أو «خلاص» من شعبية أحد الأشخاص كما كان في حالة عمرو موسى مع نظام حسني مبارك السابق، ولكن يجب أن يكون انعكاسا لفكر عام تتطلع إليه العرب الجديدة وبعيدا عن المجاملات التي دمرت الطموحات والآمال.

[email protected]