مصالحة الرعية.. و«الراعي»

TT

من تصالح مع من، فيما سُمي بلقاء «المصالحة المسيحية - المسيحية» في مقر البطريركية المارونية في بكركي الأسبوع الماضي؟

إذا كان المقصود من اللقاء مصالحة الأحزاب والتيارات المارونية المتخاصمة مع بعضها البعض، فذلك يقتضي، بادئ ذي بدء، إعلان تحرر بعضها من الالتزامات الخارجية التي «تسدد» خطاها في لبنان. وفي غياب هذا الإعلان، أكد البيان الختامي للقاء أن مقاربة المجتمعين للقضايا المطروحة عليهم حصلت «انطلاقا من التمييز بين ما هو متفق عليه وما هو خاضع للتباينات السياسية المشروعة» - أي الالتزامات الخارجية.

إدراج هذا «التحفظ» على مشروع المصالحة المارونية - المارونية يؤكد أن هذه المصالحة لم تعد قضية لبنانية داخلية بقدر ما هي قرار يرتبط بـ«أضواء خضراء» إقليمية، وربما دولية. واقتصار الاختراق الشكلي الوحيد في اللقاء على مصافحة بروتوكولية بين القطبين المارونيين اللدودين، سليمان فرنجية وسمير جعجع - على الرغم من عمق الخلافات الشخصية بينهما - يوحي بأن المصالحة الفعلية التي شهدتها بكركي كانت بين «الرعية والراعي» وليس بين الأقطاب الموارنة، أي بين القاعدة المارونية التي يمثلها هؤلاء الأقطاب وسدة البطريركية المارونية في عهد البطريرك الجديد بشارة الراعي. أن يحقق البطريرك الراعي، بعد أسابيع معدودة من انتخابه للموقع الروحي الأول للموارنة، ما تعذر على سلفه، البطريرك نصر الله صفير، أن يحققه طيلة عهده في سدة البطريركية، إنجاز يصعب التقليل من أبعاده، المسيحية أولا، واللبنانية ثانيا، خصوصا أنه يأتي في وقت تعيش فيه الساحة اللبنانية حالة استقطاب سياسية - مذهبية حادة بين طائفتي لبنان الرئيسيتين: السنية والشيعية.

على خلفية هذا الواقع المقلق، لا يسع أي لبناني يتطلع إلى استقرار بلده إلا أن يرحب بدور مسيحي فاعل على الساحة الداخلية، من شأنه أن يكسر الحلقة المغلقة التي يتواجه فيها تيار المستقبل وحزب الله (وحلفاؤهما) ويعيد إلى اللعبة السياسية بعض توازنها.

بانتظار أن يتحول لبنان إلى نظام علماني، قد تكون المفارقة «السياسية» المطلوبة على ساحته تكاثر اللاعبين المذهبيين وتعددهم، فبقدر ما تتنوع قضاياهم تتراجع احتمالات الفتنة الثنائية السنية - الشيعية.

مع ذلك، وعلى الرغم من الاحتمال القائم بأن تبقى المصالحة المارونية – المارونية بروتوكولية الطابع، فإن لقاء البطريرك الراعي مع «الرعية»، وعلى مسافة واحدة من أقطابها، أعاد إلى الصرح البطريركي دوره الرعوي بعد سنوات من تسييسه بفعل الحملات المتواصلة عليه.

لكن من التبسيط بمكان إغفال دور الظروف الإقليمية المتغيرة بين عهدي البطريرك صفير والبطريرك الراعي في إعادة ترتيب الأولويات المسيحية في لبنان، وفي مقدمتها ذلك المتغير الجذري المتمثل بظاهرة الانتفاضات العربية المطالبة بسقوط الأنظمة الموروثة عن الخمسينات، وما قد تحمله هذه التغييرات من احتمال تنامي النفوذ الأصولي أو السلفي في بعض الدول العربية.

قد يكون من المغالاة توقع تحول دول الانتفاضات العربية إلى دول سلفية أو أصولية، في وقت تسعى فيه شعوبها إلى دخول القرن الحادي والعشرين من بوابته الديمقراطية المشرعة عالميا، لكن هامش الحرية المفترض أن توفره الأنظمة الديمقراطية لشعوبها، وتحديدا حرية تشكيل الأحزاب، قد يفسح المجال لقيام بؤر متشددة تهدد الوجود المسيحي فيها.

بالنسبة للبنان، وبصرف النظر عما يُعرف عن مركزية النظام السوري وسلطويته، يشكل التنوع المذهبي للمجتمع السوري والمنحى العلماني لنظام الحكم في دمشق شكلا من أشكال الحاجز الواقي لمسيحيي لبنان من تمدد التيارات الإسلامية المتشددة إلى أرضه، وذلك يعني أن بلوغ الانتفاضات الشعبية العربية ساحة سورية من شأنه أن يثير مخاوف مسيحيي لبنان من انهيار الحاجز الواقي من التهديدات السلفية، الأمر الذي يستدعي، بدوره، البحث عن عباءة أخرى تحتمي تحتها الأقلية المسيحية في لبنان.

ومن أولى من البطريركية المارونية بحماية الوجود المسيحي في لبنان، بما تملكه من أوراق خارجية؟