مراسل البوسفور

TT

على نحو ما، تتولى المدن صناعة كتابها. ليس عليهم سوى أن يعطوها سنوات الطفولة، حين الذاكرة في غلواء التلقف، والباقي عليها: الشوارع العتيقة والأعمدة والقناطر والياسمين والأسواق القديمة. كل مدينة رائعة كان لها كاتب رائع، ربما في ما عدا تشارلز ديكنز، الذي كانت له مدينتان، لندن وباريس. جيمس جويس صنعته دبلن. نجيب محفوظ، كانت بطلته القاهرة. بودلير كانت له «سكينة» باريس. الشاعر العظيم بيساوا كانت ملهمته لشبونة. جيمس بالدويل صقلت موهبته أزقة هارلم. الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي حولته الإسكندرية من موظف حكومي بسيط إلى شاعر عالمي. الروائي الأرمني وليم سارويان جعل من بلدة تدعى فرزنو، كاليفورنيا، اسما في خرائط الأدب.

تعود كل هذه الأسماء إلى الذاكرة وأنا أقرأ «إسطنبول» للتركي أورهان باموق (دار الانتشار العربي). لعله لم ينتبه وهو يكتب ذكريات طفولته إلى أن مدينته هذه لها طبقتان إمبراطوريتان: القسطنطينية ثم إسطنبول، أو الآستانة، أو «الباب العالي»، زمن الإمبراطورية العثمانية.

يتذكر باموق (نوبل الآداب 2006) ويحزن. واضح أنه نشأ في عائلة بورجوازية لا تزال تتصرف وكأن السلطنة لن تزول. هناك البيانو في مدخل البيت، كما في معظم بيوت تلك الحقبة، لكنه مجرد دليل على بقايا الوجاهة ولا أحد يجيد العزف عليه. وهناك الجدة السمينة التي تتناول فطورها في السرير وسط أكداس الصحف. وهناك طباخها بكر، الذي أعطى لكل من في المنزل لقبا يناديه به، فالصبي الضيق العينين كان يسميه «الياباني»، والعنيد «التيس»، وأورهان كان «الغراب» بسبب نحوله الشديد.

ابن مدينته المفضل هو، بلا ريب، الرجل الذي دون يوميات إسطنبول قبله: صحافي يدعى أحمد راسم ترك مجموعة من المفكرات بعنوان «مراسل المدينة»، ترسم في دقة أنواع الحياة في إسطنبول على مدى 50 عاما: باعة الشوارع في الأحياء الفقيرة، البقالون والمحتالون، جمال البلدات والخانات على البوسفور وحاناتها الفظة، الحدائق العامة، الشائعات والحكايات. ولم ينس راسم أن يسدي نصيحة ذهبية إلى الكتاب الشباب: لا تخرجوا إلى المدينة إلا ومعكم مفكرة تسجلون فيها المشاهدات.

يشبه باموق كتاب الأعمدة السابقين «بالمؤرخين الأوائل، الذين دونوا الحياة اليومية ونقلوا ألوانها وروائحها وأصواتها. وساعدوا على ترسيخ الأصول في شوارع إسطنبول ومتنزهاتها وحدائقها ودكاكينها وسفنها وجسورها وميادينها. ولأن التعرض للسلطان أو حتى الموظفين كان ضربا من الجنون، فلم يكن في إمكانهم أن يسخروا إلا من حشود البسطاء البائسين السارحين في الشوارع».