براهين عملية على أفضلية النظم الملكية

TT

بعض الشركات والمعاهد والأندية الثقافية اللندنية جنت هذا الأسبوع أرباحا بالملايين. المصدر تأجير نوافذ وشرفات مقارها بما يعادل ألفي دولار للقدم المربع.

بعض مبانيها تطل على ساحة كنيسة «ويستمنستر آبي» أو شارع ذي - مال، طريق الاحتفالات الرسمية، الذي يحد شمال غربي حديقة سانت جيمس، والمؤدي من قصر باكنغهام، إلى ميدان الطرف الأغر، عبر مبنى قوس الأدميرالية الضخم.

المستأجرون من الصحافة بكافة أصنافها، مسموعة، مرئية، مقروءة، أو إلكترونية.

السكان الموسميون الذين هبطوا على لندن في أسبوع واحد، هم أكثر من 8500 صحافي، من جميع أنحاء العالم؛ يحملون بطاقات مؤقتة أصدرها قصر باكنغهام، المقر الرسمي للمؤسسة الملكية؛ رمز الدولة، وليس الحكومة.

صحافة العالم كله - بما في ذلك من بقي من الكتلة الشيوعية كالصين وكوريا الشمالية - غزت لندن لتغطية أكبر حدث تشهده بريطانيا وبلدان الكومنولث هذا العام: مراسم الزفاف الرسمية لسمو الأمير ويليام، حفيد جلالة الملكة إليزابيث الثانية، ويليام، وهو الوريث الثاني - بعد أبيه ولي العهد سمو الأمير تشارلز - إلى المدموزيل كاثرين ميدلتون، الذي تم بحمد الله، أمس (الجمعة) 29 أبريل (نيسان)، وكان عطلة رسمية في البلاد والبلدان التي يمثل التاج رمز دولتها الرسمية.

ومنذ زفاف الأمير تشارلز إلى المرحومة ديانا سبنسر، قبل 31 عاما، لم تشهد العاصمة، وهي ليست فقط عاصمة المملكة المتحدة، بل هي عاصمة الدولة الرسمية لبلدان الكومنولث؛ هذه الاحتفالات الرسمية، التي تولى الجيش، وبالذات سلاح الفرسان الملكي من لواء ويلز - الذي عاد لتوه من خدمة عامين في أفغانستان - ترتيب استعراضاتها بدقة الساعة السويسرية.

وبلدان الكومنولث، مثل كندا، التي تتبع النظام البرلماني البريطاني، تنفصل فيها الحكومة التنفيذية، المنتخبة برلمانيا، دستوريا عن الدولة بمؤسساتها الثابتة من قضاء وجيش وديوان الموظفين العام في الوزارات. ورأس الدولة الملكة، وهي مثلا ملكة كندا وأستراليا، وجزر الهند الغربية وعشرات من بلدان الكومنولث.

الطريف أن العدد الأكبر من الفرق الصحافية بكاميرات التلفزيون هي من أنظمة جمهورية وليست ملكية، لكنها لا تستطيع أن تغيب عن الحدث الأكبر في العالم، إذ سيحول متفرجوها في عصر عولمة الصحافة، مؤشر التلفزيون أو الريموت كنترول إلى واحدة من مئات المحطات التي تنقل مراسم الزفاف والاحتفالات الرسمية.

رغم الحروب والكوارث والثورات فإنني أستخدم تعبير الحدث الإنساني الأكبر في أجندة الصحافة العالمية، وهو مراسم زفاف الأمير ويليام.

ولعل أحد أهم الدروس، وهو ما يجيب عن نظرية المؤامرة المنتشرة في العالم الثالث - وبكثافة في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا - أن من وضع مراسم احتفالات الزفاف على قمة أهم الأحداث، هم الناس العاديون، ملايين العاملين والعاملات، في المصانع والمقاهي، وسائقو التاكسيات، وخدم المنازل والسكرتيرات، والموظفون من الدرجة التاسعة حتى وكلاء الوزارات. أي غالبية العاديين في العالم كله، وليس الساسة، أو الصحافيين أو أي جهة رسمية.

والدليل أنه باستثناء صحافة الديكتاتوريات، وصحافة وتلفزيونات البلدان الصغيرة التي تتمتع بثروات لا تدري ماذا تفعل بها، فإن الغالبية الساحقة من شبكات التلفزيون والإذاعة بمراسليها الـ8500 وعشرات الآلاف من الصحف المكتوبة ومواقع الإنترنت الإخبارية مملوكة لشركات قطاع خاص، أو حملة أسهم أو ناشرين، وليست مدعومة من حكومات أو أحزاب.

أي منشآت خدمات تجارية تلهث ببضاعتها الإعلامية وراء المستهلك (من قارئ ومستمع ومشاهد) في كل مكان، وتتنافس على تقديم البضاعة له في أفضل تغليف وأكثر الفاترينات جاذبية. أي أن الرغبة عند ما يتراوح ما بين مليارين وثلاثة مليارات مشاهد حول العالم، اعتبرت مراسم الزفاف أهم من متابعة الحروب والمظاهرات. واعتبروا أن ما يطلبه المستمعون والمشاهدون هو التمتع برؤية الشخصية المحبوبة رقم واحد في بريطانيا والكومنولث - الملكة إليزابيث الثانية - تلوح هي وزوجها الأمير فيليب، دوق أدنبرة، لملايين الرعايا وتتقبل باقات الزهور من الأطفال والمسنين - وخاصة أن آلافا من الأسر البريطانية أقامت خياما صغيرة على الرصيف المقابل لمبنى البرلمان والمؤدي إلى كنيسة «ويستمنستر آبي»، منذ الأحد الماضي.

الدرس الآخر هو من الشعبية الجارفة لمحبي ومفضلي النظام الملكي على الأنظمة الأخرى. فمثلا القسم الأعظم من ناحية التأثير على الرأي العام في الصحافة البريطانية هو يساري النزعة مفضل للنظام الجمهوري منتقد للمؤسسة الملكية ويعتبرها إرثا للإمبراطورية التي يخصص هذا القسم الجزء الأكبر من برامجه وأعمدته الصحافية لمهاجمتها (البي بي سي بأقسامها، القناة الرابعة، مجموعة الغارديان والأوبزرفر، الإندبندنت، مجموعة الميرور، معظم الصحافة الاسكوتلندية - وهي بالأرقام تؤثر على 65 في المائة من المستهلك الإعلامي). ورغم ذلك كان هناك في إنجلترا وحدها 5400 حفلة شارع احتفالا بعرس حفيد الملكة. وحفلة الشارع تشترك فيها معظم البيوت، حيث يمنع الناس مرور السيارات ويزينونه بالأعلام البريطانية وصور الملكة والعروسين. ويضعون الموائد والكراسي كمأدبة تمتد بطول الشارع، وتعد ربات البيوت مئات الأطباق وجبتي الغداء والعشاء، ويعزفون الموسيقي ويرقصون ابتهاجا.

شعبية النظام الملكي دلالة تاريخية على أن البشر بطبيعتهم يفضلون الثبات والاستقرار، ولعل هذا أحد أهم ملامح بريطانيا التي تجعلها موضع إعجاب وحسد غالبية سكان العالم حتى في الجمهوريات.

الملكية مؤسسة تبث الثقة والاطمئنان في الاستقرار والعدالة.

الجمهوريات التي تعصف بها الثورات منذ الخريف الماضي، يتساقط فيها المئات ضحايا لجيوش استنفرت ضد الشعوب، تتمتع كلها بدساتير مكتوبة وقوانين مدنية وجنائية تحكم نظم القضاء.

وعلى العكس، بريطانيا ليس فيها دستور مكتوب، وتحكمها تقاليد غير مكتوبة أو مدونة، سواء مراسم وترتيب أعمال البرلمان بمجلسيه، أو تقاليد الزفاف التي لم تتغير منذ مراسم زواج الملكة فيكتوريا إلى الأمير ألبرت عام 1868، بل إنها محفوظة في الذاكرة القومية الجماعية. والقوانين مدنية وجنائية ليست مكتوبة. ويجتهد القضاة بموازنة مرافعات المحامين مع الأدلة وأقوال الشهود بميزان دقيق للنطق بأحكام تختلف من قضية لأخرى.

واسأل أي عاقل هل يفضل المثول أمام محكمة إنجليزية أم محكمة في إحدى جمهوريات القوانين المكتوبة؟

واسأل جمهوريا متعصبا يتظاهر ضد وعد بلفور إذا كان يفضل العيش في طرابلس تحت حكم جماهيرية اللجان الشعبية أم يصبح أحد رعايا جلالة الملكة؟

وللباحثين عن نظام سياسي ديمقراطي، بديل لرؤساء سقطوا، يضمن العدالة ويحقق الرفاهية، السر في فصل الدولة الثابتة - التي تضبط سير الحياة السياسية - عن الحكومة التنفيذية المنتخبة برلمانيا، مستقلة عن القضاء، وسلطة التشريع. والتي يستطيع الشعب إنهاء عقد عملها في الانتخابات التالية إذا تهاونت في أداء الوظيفة.