جمعة الفرح مقابل جمعة الغضب

TT

العالم اليوم هو ما يحدث على الشاشات وليس ما يحدث على أرض الواقع. فمن لم يقتل مثلا على شاشات التلفزيون في موجة الثورات العربية، وفي ما يخص الجمهور العربي بالتحديد على شاشة «الجزيرة»، فهو ليس بشهيد. وما يفعله أي نظام في العالم العربي بمواطنيه في غياب الكاميرات لم يحدث أو لن يعترف به الغرب على أنه قد حدث بالفعل. ففي اليوم الذي كانت الاضطرابات في سوريا تحتشد فيه لما عرف بجمعة الغضب، كان الغرب كله وعن بكرة أبيه، هذا إن كان عندهم بكرة، مأخوذا بالعرس الملكي البريطاني الذي كان هو الحدث الأول والأخير في كل التلفزيونات. كانت جمعة الغضب في سوريا، وكانت في الغرب جمعة الفرح، جمعة زواج كيت دوقة كمبردج والأمير ويليام الرجل الثاني بعد أبيه على العرش البريطاني. العالم كله، أو الغربي منه على أقل تقدير، لم ير شيئا على شاشاته طول يوم الجمعة وليلتها سوى العرس الملكي. لم ير الغرب ولم يهتم بتفجيرات إرهابية في المغرب راح ضحيتها العشرات، لم يهتم الغرب بما يحدث في سوريا، لم يهتم الغرب لا بعملياته التي يقوم بها ضد القذافي في ليبيا، وكذلك لم نر أي صور لجرائم كتائب القذافي في المدن الليبية المختلفة من مصراتة إلى إجدابيا، أو الدمار الذي ألحقته الكتائب بالموانئ الليبية، لم يكن ليعطي أيا من هذه الأخبار العالمية المهمة ولو دقيقة على شاشات تلفزيونات الغرب يوم جمعة الفرح، التي فشلت جمعة الغضب في زحزحتها ولو قيد أنملة عن الشاشات.

وحتى لا تأخذنا سكرات كلامنا الفارغ عن مؤامرات الغرب ودسائسه، على الرغم من أن المؤامرات والدسائس هي أساس العلاقات الدولية، فإنها لا تصلح تفسيرا لكل شيء «عمال على بطال» إلا عند ناقصي العقول - لا بد من الاعتراف بأن للغرب إعلاما مختلفا عما نسميه نحن إعلاما في منطقتنا العربية. وأول الفوارق بين الإعلام العربي والإعلام الغربي، هو أن الإعلام الغربي يجري وراء الحدث الذي يهم مشاهديه وقارئيه ليغطيه، لا يحاول أن يصنعه أو يحشد الناس له، بل الإعلام هو الذي يحشد نفسه لتغطية ما يريد الناس أن يروه، ليس إعلاما تعبويا كما كان الإعلام المصري ولمدة ستين عاما تقريبا. إعلام التعبئة هذا أتمنى أن يشفي الله مصر منه، على الرغم من أنني لست متفائلا، فالمرض مزمن وطول المدة جعله يبدو أمرا طبيعيا، ولم يعد المصريون يرون هذا النوع من الإعلام على أنه مرض. المهم هو أن الإعلام الغربي لم يحشد الملايين للخروج إلى العرس الملكي، ولم تصدر أوامر ليشاهد أكثر من مليار نسمة الحدث. كل ما في الأمر أن الإعلام يجري وراء اهتمامات الناس، والإعلانات تجري وراء الناس، بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك مع دوافعها الأخلاقية. ومن هنا، كانت التلفازات العالمية مع جمعة الفرح وتجاهلت جمعة الغضب.

الإعلامي الغربي أيضا مهني بما لا يقارن مع الإعلامي العربي، فهو يبحث عن الحدث ويجري وراءه، باحثا عن المعلومة ذات المصداقية، أما الإعلام الفضائي العربي فهو نظام امتلاك شريط من أشرطة بن لادن أو الظواهري (ومبارك مؤخرا)، يضعها أصحابنا في الفيديو ويديرون الشريط، وانتهى الأمر، وهات يا معلقين، على التليفون والاستوديو من نوعية أم أحمد وأبو محمد، أسماء وهمية لا نعرف لها أصلا من فصل، تملأ الدنيا تعليقات عن مشاهداتهم في مصر وفي درعا ومصراتة، دونما طريقة للتأكد من حقيقة المتحدث. وتعرض فيديوهات من «اليوتيوب» من دون التأكد من مصداقيتها، بل وتعلن المذيعة بكل ثقة «لم يتسن للمحطة التأكد من مصداقيتها».. لماذا تعرضونها إذن؟!

قال لي أحد الأصدقاء إنه عندما دخل امتحانا في واحدة من القنوات الغربية الناضجة، سألوه عن ترتيب ثلاثة أحداث أيهما يضعه في النشرة كخبر أول: حرب أهلية في دولة أفريقية، اغتيال رئيس في آسيا، أم مقتل مادونا في شقة بلندن. ولما كان صاحبنا تدرب في إعلامنا، كانت إجابته بالطبع أن الحرب أهم، يليها اغتيال الرئيس، ثم أخيرا مقتل مادونا. ولكن تقييم المحطة الناضجة إعلاميا، كان هو وضع مادونا كخبر أول، لأن ذلك هو أهم خبر يريد المشاهد الغربي معرفة كل تفاصيله، وهو الخبر الذي يأتي أيضا بالإعلانات. المهم في كل هذا هو أن الإعلام الغربي تجاهل جمعة الغضب لأن جمهوره، سواء كان هذا الجمهور على صواب أو على خطأ، كان كل اهتمامه هو جمعة الفرح. فلا تحاسبوا الإعلام الغربي فقط حاولوا أن تفهموه، تفهّموا دوافعه ومحركاته، إن كنتم يوما تريدون التأثير فيه وكسب شريحة من جمهوره.