وجها سوريا

TT

أخبرني صديق سوري حميم أن هناك حكومتين في سوريا؛ إحداهما حكومة بشار التي تحكم أثناء النهار. أما ماهر، فهو رئيس الحكومة التي تحكم أثناء الليل! «بشار هو رئيسنا الرسمي الذي يحاول أن يجعل وجه الدولة يبدو مشرقا، فهو يذهب مع زوجته إلى مطاعم في دمشق ويتحدثان إلى شباب الأجيال الجديدة. والوجه الآخر هو الوجه الحقيقي للحكومة؛ حكم قوات الأمن». وقال لي صديقي: «أنت تعلم أن دولتنا ليست دولة مؤسسات، بل هي دولة قوات الأمن؛ دولة مخابرات. فحينما يأوي بشار إلى فراشه، يتولى ماهر على الفور مقاليد الحكم! هذا قدرنا! هل تعلم أن لدينا قوات أمن مزودة بأسلحة ثقيلة كالدبابات والمدفعية؟».

وبينما كان يتحدث صديقي عن وجهي سوريا، تذكرت قصيدة رائعة للشاعر نزار قباني، في ذكرى وفاته يوم 30 أبريل (نيسان). وقد رسم في هذه القصيدة صورة لوجهي دمشق:

أنا الدمشقيُّ.. لو شرحتمُ جسدي

لسـالَ منهُ عناقيـدٌ.. وتفـّاحُ

وكيفَ نكتبُ والأقفالُ في فمنا

وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّاحُ؟

حملت شعري على ظهري فأتعبني

ماذا من الشعرِ يبقى حينَ يرتاحُ؟

يمكننا رؤية وجهي سوريا والتعرف عليهما من زوايا مختلفة:

أولا، دائما ما تركز الحكومة السورية على قضية واحدة وهي أن سوريا هي المعقل الدفاعي الأساسي والقوي في مواجهة إسرائيل. وأن سوريا هي بؤرة المقاومة في منطقتنا، حيث تطالعنا وسائل الإعلام الحكومية السورية، كل يوم، بنطاق واسع من الأمثلة التي تشير لهذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال، كتب رئيس التحرير الجديد لصحيفة «تشرين» السورية في 24 أبريل (نيسان) الماضي مقالا جاء فيه:

«المعروف أن أوباما ينظر بعيون إسرائيلية أو يهودية في الغالب، وهذا ما يجعله ضعيف البصيرة، والتقارير الواردة إليه تخفف من حدّة بصره، وهو ما يؤكد استعداده الدائم لإطلاق تصريحات تعرض أمن المواطنين العرب والسوريين للخطر.. ‏

وليس سرا أن قادة الولايات المتحدة الأميركية جزء من اللعبة التي تستهدف تقويض أمن المواطن السوري لمصلحة توفير أمن الإسرائيلي، فزعزعة الأوضاع في سوريا هدفها إبعادها عن دعم المقاومة الوطنية في لبنان وفلسطين، وإجهاض المقاومة هو الحالة الوحيدة لضمان أمن إسرائيل، خاصة أن العدوانين؛ على لبنان (2006) وعلى غزة (2008) لم يحولا دون تعزيز قوة المقاومة الوطنية، بل زادا الالتفاف الإقليمي والشعبي حولها».

على الجانب الآخر، يبدو واضحا أن إسرائيل قلقة من الموقف غير المستقر في سوريا. فمؤخرا، أصدر نتنياهو أوامره لمجلس وزرائه بالابتعاد والامتناع عن الإدلاء بأي تعليقات بشأن الأوضاع الراهنة في سورية. على النقيض، يمكننا أن نجد بعض الأقوال التي وردت على لسان نتنياهو وشيمعون بيريس تشير إلى أنهم بالفعل يدعمون حكومة سوريا بشكل غير مباشر.

بالنسبة لي، يبدو هذا الوضع برمته أشبه بلعبة معقدة؛ فإسرائيل تعلم أن حدودها مع سوريا (بما فيها منطقة الجولان المحتلة) هي أكثر الحدود أمنا. ومنذ بداية الاحتلال حتى الآن، لم تكن هناك أية مشكلة في تلك المنطقة. ولم تشهد هذه المنطقة حادثة إطلاق نار واحدة. لذلك، دائما ما يصر الجانب الإسرائيلي على التفاوض المباشر مع سوريا، وعقب تفاوض ميدودييف مع الأسد، قال نتنياهو: «إسرائيل ليست لديها نية للحرب، وهذا جهد يهدف لنشر الأكاذيب لخلق حالة من التوتر الإقليمي. نحن نرغب في الاستقرار والسلام، إسرائيل تسعى للسلام ولا تنتوي مهاجمة جيرانها على الرغم من الشائعات الزائفة التي تهدف إلى خلق توتر في المنطقة. على الرغم من ذلك، فإن محادثات السلام يجب أن تتم دون شروط مسبقة. الطريق لتحقيق السلام يأتي من خلال المفاوضات، وهذا ما نعتزم القيام به مع الفلسطينيين والسوريين». من الواضح أن وفودا من سوريا أجرت مفاوضات سرية مع وفود من إسرائيل في مناسبات عدة. وهذا هو الجانب الخفي لسوريا. ووفقا لما جاء في الأخبار التي أذاعتها مصر:

«أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تعليمات لوزراء حكومته باتباع سياسة الصمت وعدم التعليق على الأحداث الجارية في سوريا». وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي في تقرير لها صباح الثلاثاء 26 أبريل (نيسان) الماضي، إنه وعلى الرغم من تعليمات نتنياهو، إلا أن هناك أصواتا تتصاعد في أروقة السياسة الإسرائيلية وفي الاجتماعات الأمنية والسياسية، تحذر من أن عدم الاستقرار في دمشق سيشكل خطرا على إسرائيل على المدى القريب والبعيد.

وثمة رابط خفي رفيع جدا بين سوريا وإسرائيل. وهذا الرابط هو المفتاح السحري الذي باستخدامه يمكننا أن نكشف النقاب عن الألغاز التي تكتنف وجهي سوريا.

ثانيا: ينتمي بشار إلى الجيل الجديد في سوريا، لكنه بذل قصارى جهده من أجل محاكاة ما اعتاد والده أن يفعله. فإبان حكم الرئيس حافظ الأسد، كان استخدام الإنترنت والهواتف الجوالة محظورا. ولم يكن مصرحا باستخدام مثل هذه الوسائل إلا بعد أخذ تصريح من الحكومة. غير بشار قواعد اللعبة، لكن يبدو لي أنه لا يزال في كهف خلقته قوات الأمن المحيطة به. هذا هو ثاني انقسام في سوريا. وهو تضارب حقيقي بين الديمقراطية والحكم الاستبدادي. وثمة فجوة كبيرة بين خطابين؛ خطاب الأغلبية من السوريين، وخطاب الأقلية التي تتولى الحكم. فلكل شخص مجموعته الخاصة من الشروط والمرجعيات. وكشاهد عيان، يقول أحد المتظاهرين الشباب في دمشق: «اخترقوا (يقصد قوات الأمن) الأزقة شمال الميدان لملاحقة المتظاهرين وهم يصيحون: (أيها القوادون المتسللون، أتريدون الحرية؟ سنمنحها لكم)».

الله وحده يعلم ما سيحدث في المعاقل السرية لقوات الأمن. في إيران، لدينا سجن «كاهريزاك» الذي يجسد نموذجا حيا للسلوكيات والممارسات اللاإنسانية التي ترتكبها قوات الأمن.

ثالثا: نحن نشاهد وجهين لسوريا؛ سوريا الحكومية، وسوريا الأخرى التي تنتمي للشعب. إن الفجوة بين الحكومة والشعب تتسع. وكل قطرة دماء تراق تزيد من هذه الفجوة بين الحكومة والشعب. الناس يصيحون في الشوارع والميادين قائلين: «الله.. سوريا.. حرية وبس». على الجانب الآخر، في المظاهرات الرسمية المؤيدة للحكومة، نسمع صيحات: «الله.. سوريا.. بشار وبس». ومن الواضح جليا أن هناك تناقضا بين الحرية وبشار.

أخيرا: من الغريب أن نرى الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل ينظرون إلى حكومة سوريا على أنها مستقرة وقوية. وعلى الرغم من أن أقوالهم وأفعالهم ليست متماثلة، فإن آمالهم وطموحاتهم شبه متماثلة. ويعلم بشار، كوالده الراحل، قواعد اللعب والرقص على الحبال المختلفة. يبدو لي أن بشار أمامه أربعة خيارات، ولا تزال جميع الخيارات مطروحة على الطاولة! لدينا ثلاثة نماذج، بن علي، ومبارك، والقذافي. والخيار الرابع هو نموذج جديد! بإمكان بشار السماح بعقد انتخابات حرة ونزيهة في سوريا وأن يدع السوريين يختارون رئيسهم وأعضاء البرلمان بأنفسهم. فإذا فاز بشار في المعركة الانتخابية، سيكون رئيسا قويا جدا وجديرا بالاحترام. أما إذا خسرها، واحترم نتيجة الانتخابات، فستخلد ذكراه كسياسي عظيم في تاريخ سوريا. منذ عشر سنوات تحديدا، التقيت بشار في قصره على جبل قاسيون. وكنا نتبادل الحديث عن الوضع حينها في سوريا. وفجأة، بصراحة شديدة، قال بشار: «إنني أواجه العديد من المطالب بإرساء الديمقراطية، غير أنهم جميعا نسوا أنني لم آت إلى الحكم نتيجة انتخابات ديمقراطية!». هذا صحيح! لكن الآن هو وقت اتخاذ قرار حاسم. الدائرة الأولى والأكثر تأثيرا، أعني قوات الأمن وأسرته، تحثه على الاستمرار في استخدام قبضته الحديدية. على الجانب الآخر، هل يمكن لبشر أن يستمع لصوت الأمة وأن ينظر إلى المستقبل وأن يتعلم من تجارب بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح وصدام، بالنظر إلى المصير الذي لقوه؟ تذكر هذه الحكمة: «صديقك من صدَقَك لا من صدَّقك».