شرف.. العربي

TT

بشرف أقصد رئيس وزراء مصر في الفترة الانتقالية، وبالعربي أعني نبيل العربي وزير خارجية مصر في الفترة نفسها. وبما أننا خرجنا من زمن الخوف ومداهنة الديكتاتورية المصرية وانتقلنا إلى ما نظنه ديمقراطية، فلا بد أن نقيم ما يقوله الرجلان بالجدية المناسبة مع منصبيهما. رئيس الوزراء شرف زار منطقة الخليج الأسبوع الفائت، وقال كلاما عن علاقة مصر بالخليج يبدو في ظاهره تعديلا لموقف نبيل العربي الداعي إلى الانفتاح على إيران. بداية الكلام الجاد، هو أن نقول لرئيس الوزراء إن مشكلة حكومته الأولى هي في قنا، في أقصى الجنوب المصري؛ حيث تقطع الآذان، وليس في قطر. واهم من يظن أن الخارج سيحترمه بينما حكومته لا تستطيع أن تفرض الأمن في الداخل. طبعا بكل تأكيد سمع سيادة الوزير مجاملات في الخليج، ولكن «اللي ملهوش خير في أهله ملهوش خير في حد تاني»، وواضح أن حكومته لم يكن فيها خير في الداخل، غير ما يمكن اعتباره دروشة سياسية.. وسأفصل.

أما الدبلوماسي القديم نبيل العربي، الذي يفهم في العلاقات الدولية، وكان سفيرا لمصر في الأمم المتحدة، فقد بدا وكأنه تبنى موقف محمد حسنين هيكل تجاه إيران كما هو، من دون أن يسعى إلى تصور استراتيجي جديد أو تعديل للمسار القديم للسياسة الخارجية المصرية. قلة في مصر من يفهمون السياسة الخارجية المصرية خارج الأكليشيهات المعروفة بالدوائر الثلاث: الأفريقية والعربية والإسلامية، كفضاءات اخترعتها جماعة عبد الناصر لتتحرك فيها الدبلوماسية المصرية. لا عيب في ذلك؛ فهو تصور بدائي، لكنه تصور في النهاية يستحق النقاش على الرغم من بدائيته.

أهم نقد وُجه للسياسة الخارجية المصرية كتبه مؤخرا اثنان من خيرة الممارسين للدبلوماسية في مصر في مقال مشترك لهما في صحيفة «المصري اليوم»، وهما: السفير عز الدين شكري فشير والسفير علي عرفان. المقال يظهر أنهما يفكران في السياسة الخارجية المصرية بشكل جدي في إطار مدارس العلاقات الدولية المتعارف عليها في الأكاديميات الغربية. وكان في نقدهما شيء من الجرأة، خصوصا فيما يخص الدور المصري في عملية السلام، الذي وصفاه بأنه موقف انتهازي في أحسن أحواله، على الأقل في فترة مبارك. ويهمني هنا أن أقتبس جملة تدل على الجرأة في النقد الذي لم نكن لنسمعه في عهد مبارك، عهد دبلوماسية الشلل (من الشلة، ومن تيبس الأعضاء في الجسد أيضا). يقول شكري وعرفان: «في سياق الحديث عن المنطقة، يتعين التوقف عن المراوغة فيما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي، وعن التعامل معه وكأنه القضية الحاكمة لسياستنا الخارجية تارة، ومعيار أهمية مصر تارة أخرى، ومصدر (استرزاق) ومساومة تارة ثالثة؛ فدور مصر في هذا الصراع أعمق وأخطر من أن يعامَل بهذا المنطق، ويحتاج أكثر من أي موضوع آخر لوفاق وطني حول شكله في المرحلة المقبلة، ولربطه برؤيتنا الشاملة للمنطقة ولترتيبات مستقبلها». والكلمة المفتاح التي استوقفتني في هذا المقال، والتي لا يستطيع أن يقولها إلا مصري جاد، هي كلمة «الاسترزاق»، وهي كلمة مرادفة لكلمة «السبوبة» في العامية المصرية، التي يفرغ فيها أي عمل من محتواه الأخلاقي ليصبح مجرد نوع من سياسة تمرير المصالح من أجل أهداف شخصية ضيقة ووضيعة في معظم الأحيان. وكانت سياسة مصر الخارجية في عهد مبارك وضيعة جدا في بعض جوانبها بالمقارنة بما لدى الدولة المصرية من أدوات. الاسترزاق كان طريقة مبارك في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي، وكانت اللعبة مكشوفة للجميع: المسترزق والمانح للرزق، فلم يكن خافيا لا على الأميركيين ولا الأوروبيين ولا حتى الإسرائيليين أن النظام المصري يسترزق من القصية، وعاملوه بناء على هذا بأقل درجة من الاحترام.

وبحثا عن احترام مفقود، ربما لذلك تطرف نبيل العربي في حديثه عن علاقات مصر بإيران، مجرد لعبة الهدف منها إعادة الأمور إلى نصابها، أو أن يقول للغرب والشرق إن قرارنا من رأسنا، وأكلنا من فأسنا، ونحن لن نسترزق بعد اليوم، وسنتخذ موقفا مغايرا من إيران. هذا مفهوم، ولكن لكي تؤكد مصر تغير سياساتها بما يدعو شركاءها إلى احترام الموقف المصري، يجب ألا يكون هذا الموقف مدفوعا بالتطرف، وليس مفيدا أن نجدع أنوفنا لكي نغيظ الأميركيين أو الأوروبيين أو أن نفرض عليهم احترامنا. لديَّ تقدير كبير لتاريخ الوزير العربي، ولكن لا بد أن يكون، كدبلوماسي مصري، قادرا على شرح هذا التغير تجاه إيران في إطار أو توجه استراتيجي مفهوم، يقع ضمن مدرسة معروفة من مدارس العلاقات الدولية، حتى لو كانت مدرسة جديدة نسميها مدرسة نبيل العربي. حتى هذه اللحظة، يبدو توجه نبيل العربي وانفتاحه على إيران مجرد نزوة دبلوماسية، أتمنى على الأقل أن يدور حوار جاد حولها في مصر.

كيف لدولة إعلانها الدستوري يقول إنها جزء من الأمة العربية، ولا يساوي القائمون على الأمر فيها مواقفهم من احتلال الأراضي العربية، سواء أكانت الدولة المحتلة هي إيران أم إسرائيل أم إسبانيا في حالة سبتة ومليلية؟ ما لفت نظري هذه الأيام هو التهليل لتوجه العربي تجاه إيران، مع أنه توجه غير عربي في أعماقه.