الكرسي الدوار

TT

قبل عدة أيام ذهبت إلى إحدى الوزارات للمراجعة في معاملة تخصني، مضى عليها عدة أعوام ولم يبت فيها وتنتهي، وأصررت على مقابلة وكيل الوزارة (المكلف) وجها لوجه، وبعد أن (اتلطعت) عند مدير مكتبه أكثر من ساعة ونصف أذن لي بالدخول عليه مع لفيف من المراجعين، وتعمدت الانتظار إلى أن خلا المكتب وأصبحنا وحدنا، فتقدمت له جالسا على الكرسي بجانب مكتبه، حتى وجدته (يحوص ويلوص) على كرسيه ذي العجلات، ويا ما تقدم وتأخر ويا ما دار (180) درجة وهو ما زال جالسا على كرسيه يستمع لي باستخفاف واضح، وتيقنت أنه بحركاته تلك قد استغل الفرصة ليمارس رياضته اليومية، ومع انشغالي بمراقبته تلعثمت بالكلام وضاع تركيزي بل وضاعت حجتي، وكلما توقفت قليلا لأسترجع براهيني، نهرني مبتسما وهو يقول لي: أكمل إنني أسمعك، وما إن أبدأ بالكلام ثانية حتى يبدأ هو بالدوران على أرضية (البلاستيك) الموضوعة تحت الكرسي خصيصا لكي يكون انسيابه أسلس، ولم يخطر على بالي وأنا أراقبه بعيني الزائغة, غير الطفل الذي لا يزيد عمره عن سنة عندما يحاول أهله أن يعلموه المشي فيضعوه على عربة لكي (يكرج) بها فرحا.

ومع حماستي بالشرح، وحماسته هو (بالكرج) وإذا بالكرسي يتجاوز أرضية (البلاستك) وتستقر عجلاته على أرضية (الموكيت) فاختل توازن الكرسي وأختل معه أيضا توازن الوكيل (المتين) فسقط على الأرض وسقط الكرسي فوقه، فاندفعت أنا لا شعوريا لكي أسنده قائلا: سلامات، سلامات، ويا ليتني لم أفعل ذلك؛ لأنني ما أن كدت أمسك بيده لكي أنهضه حتى تعثرت قدمي بالكرسي وسقطت بكامل جسمي فوق حضرة الوكيل، وخبط رأسي برأسه حتى خلت أن الشرر قد تطاير من عيوني.

ويبدو أن مدير مكتبه قد سمع (الضجة) العالية فهرع فاتحا الباب علينا ليستطلع عما حصل، وما إن شاهدنا أنا وهو والكرسي فوق بعضنا البعض حتى تبادر إلى ذهنه أننا نتعارك، فما كان منه إلا أن يقفل راجعا مناديا على الفراش أو (السكيورتي) الذي أمسك بي وأسند ظهري على الجدار، والحمد لله أنه لم يمد يده علي.

وقف الوكيل متأوها ومترنحا من شدة خبطة رأسي برأسه قائلا لمدير مكتبه والفراش: حصل خير، حصل خير، اخرجا واتركانا لوحدنا.

خرج الاثنان ونظراتهما ممتلئة بالشك والحيرة، ولا أدري ماذا خطر ببالهما؟!

التقط هو غترته وعقاله من على الأرض ووضعهما من جديد على رأسه، مثلما التقطت أنا كذلك شماغي وعقالي وأحكمتهما على رأسي.

وجلس على كرسيه يتحسس رأسه، ولكنه هذه المرة ظل ثابتا دون أي حركة قائلا لي: أكمل، قلت له: ليس عندي كلام بعد كل الذي حصل، فقد تبخر الكلام.

وتفاجأت به يقول لي: كل هذا حصل من عينك الحارة، فقد (نظلتني)، ولا أدري ساعتها هل هو جاد أم يمزح؟! فما كان مني إلا أن أستغلها فرصة وأرد عليه ضاحكا، بل إنها عقوبة لك من رب العالمين.

هل تصدقون أن تلك (الكرفسة) أو السقوط كان أروع سقوط مر علي في حياتي، لأن الوكيل بعدها أنهى معاملتي - أو بمعنى أصح - أنهى (معاناتي) بجرة قلم، خرجت بعدها من مكتبه شاكرا.

ولولا الحياء لطلبت منه أن يمنحني ذلك الكرسي، لأضعه في صدر مجلسي تبركا وعرفانا بالجميل، فلولاه لما سقط الوكيل، ولولاه لما انتهى غلبي.

[email protected]