قتل أسامة.. فهل انكسرت أيقونة الغضب؟

TT

في الهزيع الأخير قبل البارحة (بتوقيت المنطقة العربية طبعا) خرج الرئيس الأميركي باراك أوباما ليعلن لشعبه وللعالم كله خبر مقتل أسامة بن لادن، ومجموعة معه، على يد قوة أميركية خاصة في العاصمة الباكستانية (إسلام آباد).

أخيرا ظفر أوباما بهذه اللحظة الملحمية، وهي التي كان يؤمل الرئيس السابق جورج بوش نفسه بها، ولكن أتت لصالح أوباما الذي يتهمه غلاة اليمين الأميركي بأنه «نصف مسلم» أو مسلم مستتر!

غطى هذا الخبر على كل الأخبار، وغرق الناس في التفاصيل: ماذا عن الجثمان، وكيف سيدفن، وهل يتلقى أهل بن لادن العزاء فيه، وأين يكون ذلك، وهل تلقى جثة بن لادن في البحر، وكيف تعاملت القوة الأميركية مع جثمان أسامة، زعيم «القاعدة»، حتى وإن قال الأميركيون إنهم تعاملوا معه بطريقة إسلامية...

هذا الغرق في التفاصيل يعكس حالة من الذهول عن رؤية المعنى الكلي للخبر، والصورة الكبرى، وهذا سلوك الصدمة الأولى ربما، كما يعكس أيضا الحساسية الدينية التي أحيط بها شخص أسامة بن لادن، زعيم الغضب الأصولي العالمي، لدى المسلمين.

أسامة تحول منذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2011 إلى «أيقونة» للغضب الإسلامي، تماما مثلما تحول الشيوعي الأرجنتيني (تشي غيفارا) إلى أيقونة للغضب اللاتيني اليساري ضد الغرب.

وحينما يتحول الشخص إلى أيقونة، فيصعب جدا التعامل معه بشكل واقعي وعلمي، العواطف تصبح هي الغالبة في كيفية التعامل، سواء عواطف الكره أو الحب والعبادة الشخصية. وأحيانا يتجنب كثيرون توجيه النقد أو التقدير لهذه الأيقونات حذرا من مشاعر الجمهور، الكاره أو المحب، وهذا بالضبط ما حصل ويحصل مع أسامة بن لادن منذ تحوله إلى أيقونة الغضب الإسلامي العالمي.

نتوقف قليلا عند:

- لماذا تباينت ردود الفعل الإسلامية تجاه مصرع أسامة بن لادن؟

- ثم من هو أسامة بن لادن من الناحية الفكرية؟

- وأخيرا ماذا يعني رحيله الجسدي عن دنيانا، وفي هذا التوقيت بالذات؟

بالنسبة للنقطة الأولى نلاحظ أن ردة الفعل الأميركية الرسمية، ممثلة بخطاب الرئيس أوباما كانت مقتصدة وحذرة في إبداء مشاعر الفرح والانتشاء، حتى لا يتم استفزاز المسلمين عبر الشماتة بهم في مقتل واحد يعتبره كثيرون منا، رضينا أو لم نرض، بطلا قوميا يجب تقديسه ورفعه إلى مراتب قادة التاريخ والجهاد الإسلامي، وكلنا يتذكر مشاعر الفخر التي أحيط بها أسامة بن لادن لدى مجتمعاتنا بعد عملية 11 سبتمبر، بل حتى لدى كثير من مثقفينا، ناهيك عن نجوم الإسلاميين الذين حولوا «الشيخ أبي عبد الله» إلى أمير المؤمنين والمجاهدين، ولم يجرؤ كثير من شيوخ «الصحوة» بل وحتى بعض الشيوخ التقليديين على توجيه نقد حاد واعتراض واضح على أسامة بن لادن ورفاقه.

ردة الفعل العادية لدى الناس الأميركيين على نبأ قتل أسامة كانت أكثر تحررا وعفوية من تحفظات الإدارة الرسمية وتحشمها، الأمر الذي دل عليه توافد الجموع للاحتفال بمصرع زعيم الإرهاب الإسلامي في العالم. وهذا سلوك طبيعي لأناس طبيعيين تجاه زعيم تنظيم إرهابي أراق دماء الأميركيين بغزارة، وغير الأميركيين طبعا، في خطاب أوباما كان واضحا الحرص على تأكيد أن بن لادن هو عدو للسلام العالمي والبشرية جمعاء وأنه قتل من المسلمين وخرب بنفس القدر الذي فعله في غير المسلمين إن لم يكن ذلك أكثر.

أما بالنسبة لردود فعل المسلمين والعرب، فقد تباينت طبقا لتباين المواقف والمصالح من مقتل أسامة وغيابه عن المشهد، الدول العربية التي تضررت من عمليات الإرهاب القاعدي كانت الأكثر ترحيبا بمصرع أيقونة «القاعدة» أسامة بن لادن، مثل العراق وطبعا السعودية التي ولد ونشأ فيها أسامة.اما البلد الذي وكان الأكثر انطلاقا في التعبير عن ترحيبه هو اليمن، الذي ذاق الأمرين من فعائل «القاعدة» هناك وتركيز أسامة بن لادن الشخصي على اختطاف اليمن.

لكن المثير للانتباه هو تباين مواقف الإخوان المسلمين من القاهرة إلى غزة، ففي مصر حيث أعلن الإخوان عن قيام حزبهم السياسي مؤخرا، وعزمهم خوض الانتخابات النيابية، وحيازة مقاعد كثيرة، وبدأوا يتحدثون عن أنفسهم بوصفهم القادة الجدد لمصر، أو ما هو قريب لهذا، لاحظنا أن عصام العريان نائب رئيس الحزب الإخواني الجديد وعضو مكتب الإرشاد يقول، كما نشر موقع (سي.إن.إن) الأميركي، حول مصرع أسامة: «نرى أن موت أسامة بن لادن بعد الثورات التي شهدتها المنطقة مؤشر لبداية جديدة لعلاقات طبيعية مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط».

بينما نرى أن موقف حماس في غزة، محتلف حيث استنكر اسماعيل هنية اغتيال بن لادن، مدينا السياسة الأميركية: «القائمة على سفك الدم العربي والإسلامي»، وفقا لما نقله موقع «فلسطين أون لاين».

هذا التناقض بين موقف عصام العريان، القيادي الإخواني المصري، وبين هنية، القيادي الإخواني الغزاوي، نابع من اختلاف المصالح والتقديرات تجاه «أميركا أوباما» الآن. بالنسبة لإخوان مصر، فأوباما «حليف» وهو الذي كان له الدور الدولي الأساسي في إسقاط خصمهم اللدود حسني مبارك، وإفساح المجال لهم للتنفس السياسي بل وقيادة القرار السياسي في مصر، أو على الأقل الاشتراك فيه بنسبة كبيرة، أما بالنسبة لحماس وهنية، الحال مختلف، فأميركا ما زالت تتعامل مع حماس من المنظور الإسرائيلي، أضف إلى ذلك أن حماس هي كوكب يدور حول الشمس السورية «الأسدية» وشمس الأسد في دمشق تمر بحالة كسوف دولية بفعل أميركا وضغوطها المتزايدة على دمشق الحاضنة لخالد مشعل وحماس، وطبعا من خلف دمشق إيران التي ما زالت أميركا معها في حالة عداء، ونعلم ارتباط حماس الوثيق بطهران الخمينية أيضا.

وهناك بعد آخر في الترحيب الإخواني المصري بمصرع أسامة بن لادن، هو تأكيد الانفصال على المستوى الفكري والنظري والسياسي عن نموذج الإسلام الجهادي الذي يمثله أسامة ونائبه المصري أيمن الظواهري، وأن الغرب وأميركا إذا كانوا يبحثون عن إسلام معتدل فهو نحن.

وهنا ننتقل للنقطة الثانية.

أسامة هل هو حالة أصولية شاذة؟ وهل هو نتاج الإخوان المسلمين أم الإسلام السني التقليدي، أم التيار السلفي بشقيه الموالي والمعارض؟

هذا مبحث مثير، ويحسن هنا الإشارة إلى كتاب مهم جدا كتبه صحافي التحقيقات الأميركي الشهير (لورانس رايت) واسم الكتاب كما ترجم إلى العربية (البروج المشيدة)، ويقول رايت في تقديمه لكتابه إنه ومنذ هجمات سبتمبر، أصبح هذا الكتاب همه الأول، وإنه استقى عنوانه من آية في القرآن الكريم لطالما كان أسامة بن لادن يستشهد بها، وهي (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة). النساء، آية 78.

يقول (رايت) إنه اعتمد أيضا في كتابه على 5 سنوات من البحث و600 مقابلة أجراها في مصر والسعودية وباكستان وأفغانستان والسودان وإنجلترا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة مع أشخاص وثيقي الصلة بتنظيم القاعدة وقياداته وخلاياه، مثل الصديق المفضل لـ«بن لادن» خلال سنوات الدراسة بالجامعة جمال خليفة، وغيره.

بدأ رايت كتابه بفصل مهم عن سيد قطب، نعم سيد قطب، أحد رموز الرومانسية الثورية الإخوانية، والذي كرس مبدأ الانفصال الثوري للتيارات الإسلامية السياسية، ويتحدث رايت في مواضع مثيرة من الكتاب عن أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 لم تكن بداية قصة، وإنما نهاية قصة! أو هي سياق درامي لقصة بدأت قبل سنوات طويلة، في مناطق مختلفة من العالم.

يقول إن هذه القصة بدأت منذ لحظة صعود سيد قطب إلى ظهر المركب، في الأربعينات من القرن الماضي، في طريقه إلى الولايات المتحدة للدراسة، حيث عاد منها أبا روحيا لجميع الحركات الإسلامية، بعد أن أصبح أكثر راديكالية وتطرفا بعد إقامته في أميركا. وقبل أن تسهم سنوات سجنه ثم إعدامه، في تتويجه شهيدا وبطلا لهذه الحركات.

أسامة بن لادن، ولد 1957 للمقاول السعودي الأشهر «المعلم» محمد بن لادن، في عائلة غزيرة العدد، ترتيب أسامة في العائلة كان الـ17 بين إخوته وأخواته، البالغ مجموعهم 52.

في 1979 وهي السنة التي وقعت فيها ثورة الخميني «الإسلامية» بإيران، والسنة التي ثارت فيها جماعة جهيمان بالحرم المكي واحتلوه لمدة أسبوعين، تخرج أسامة بن لادن في جامعة الملك عبد العزيز في جدة بالسعودية، ومنها حصل على البكالوريوس في الهندسة. وفي تلك المرحلة كان الغزو السوفياتي لأفغانستان، وكانت أميركا والسعودية ضد هذا الغزو الأحمر لأفغانستان، كبحا للتمدد الشيوعي وخوفا من وصول الدب الروسي إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، فتم دعم حركة «الجهاد» الأفغاني، ومن هناك بدأت قصة معقدة، لم نقل كاملة لحد الآن، وصولا إلى إعلان أسامة بن لادن ورفاقه من الجهاديين العرب عن قيام تنظيم عالمي للجهاد. وفي تفاصيل هذه القصة دور الشيخ الفلسطيني الإخواني عبد الله عزام، أستاذ أسامة بن لادن، وأحد صقور الإخوان الذين مروا بمدينة جدة وجامعتها.

قبل أن ينشق أسامة بن لادن عن الحكومة السعودية عقب حرب صدام على الكويت 1991 كانت صورة أسامة صورة طيبة لدى السعوديين، بالذات علماء الدين، وأذكر شخصيا أنني سمعت باسم أسامة بن لادن بشكل احتفائي في تلك المرحلة، بوصفه الفتى المخلص الثري الذي سخر ثروته ونفسه للجهاد في سبيل الله، وما زلت أذكر النداء الذي كان معلقا في مساجد الرياض لمناصرة مدينة خوست في أفغانستان، وعلى النداء توقيع «الشيخ» أسامة بن لادن، لكن جرت في الساقية مياه كثيرة، وتحول ابن لادن إلى عدو جهادي للسعودية وبقية العالم، وانطلقت أعمال «القاعدة» مبكرا في السعودية عبر تفجيرات حي العليا في العاصمة الرياض 1995، ثم كرت السبحة الدموية منذ تفجيرات غرناطة والحمراء 2003، واستمرت بشكل متقطع، بمباركة أسامة.

ما يراد قوله هنا هو أن محاولة عصام العريان وغيره نزع المؤثر الإخواني عن أسامة و«القاعدة»، وأيمن الظواهري أيضا، مجرد تدليس وخلط للأوراق، كما أن محاولة التيارات السلفية نفي أثر عقيدة الولاء والبراء والتكفير عن فكر الجهادية السلفية (المقدسي والمقرن مثلا) هي أيضا نوع من هذا التدليس.

لقد كان أسامة بن لادن شابا «إسلاميا» حالما ورومانسيا ثوريا يهجس «بدولة الإسلام». كما يذكر أحد أصدقاء أسامة القدامى، وهو الصحافي السعودي المعروف جمال خاشقجي، أثناء علاقته «المبكرة» به. (البروج المشيدة، ص96).

وسبق أن أشار صاحب هذه السطور في مناسبة سابقة إلى الرسالة العلمية (دكتوراه) التي قدمها الباحث المغربي محمد نبيل ملين عن الطبقة الدينية السعودية، في أحد المعاهد المتخصصة بفرنسا، حيث قال الباحث في رسالته هذه عن تنظيم القاعدة: «يتبعون في المجال السياسي، بوعي أو من دون وعي، آيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة التيار القطبي فيها، فأسامة بن لادن تربى تقريبا في أحضان جماعة الإخوان المسلمين» ص 379.

أسامة بن لادن، فكريا: منتج قطبي إخواني مطعم ببهارات سلفية. وسياسيا: عرض من أعراض الحرب الباردة بين أميركا والسوفيات، وشظية باقية من شظايا تلك الحرب الكبرى. لكن الأعمق والأهم من ذلك كله، أن المشكلة ليست في «شخص» أسامة بن لادن المفردة، بل في السياق التاريخي والاجتماعي العام الذي أنتج أسامة بن لادن لنا؟

وهنا نأتي للنقطة الأخيرة.

ليس صحيحا كما يقول البعض أن «القاعدة» أو للدقة «فكر القاعدة» هو ملعوب لعبته المخابرات الأميركية أو بعض الأنظمة الاستبدادية العربية لتبرير استمرارها، هذا تسطيح، وتشويه لحقيقة الصورة، الصورة أعقد وأشرس من هذا. فـ«القاعدة» وكل تجليات العنف الأصولي ليست إلا تعبيرات عن غضب مكنون لا يهدأ، وسيجد صيغة أخرى لنفسه يعبر بها عن رسالته ومشاعره، لذلك فمصرع أسامة الجسدي ليس نهاية الأمر، وإن كان ضربة معنوية كبرى..

ما هي حقيقة هذا الغضب وما هي أسبابه، وكيف يتوقف؟

هناك من يرى أن سبب الغضب الإسلامي الذي أنتج لنا أمثال أسامة بن لادن أو سيد قطب أو المقدسي أو جهيمان أو الزوابري في الجزائر أو الحارثي في اليمن، هو الاحتلال الأجنبي فقط، وأن هذه الشخصيات والتيارات مجرد مقاومة «وطنية». وهناك من يرى أن هذه الحركات والشخصيات تعبيرات عن الغضب من القمع السياسي، وجدت الخطاب الإسلامي لها جسرا للوصول إلى المشاعر العميقة للناس بلغة دينية مؤثرة، وهناك من يرى أن هذه الجماعات والشخصيات ليست إلا أصوات احتجاج تعبر عن فئات اجتماعية همشتها الدولة العربية الحديثة، وهناك من يرى أنها ليست سوى صرخة قهر من توحش العولمة والرأسمالية، وهناك من يرى أنها مجرد أدوات تستخدمها القوى الأجنبية لتضييع المسلمين وتفرقتهم (كلنا يتذكر كلام فتح عن ارتباط حماس بإسرائيل... إلخ).

المسألة مركبة ومتشابكة، لكن شخصيا أميل إلى أن السبب الأكثر إقناعا في تفسير «بقاء» هذه الحركات وتنوع ظهورها في أكثر من ظرف اجتماعي مختلف، هو سبب فكري ونفسي عميق، وأعني بالنفسي هنا» النفس «الجماعية».

بالفعل هناك «جرح» عميق في النفس الإسلامية الجماعية يتمثل بحدثين أساسيين:

ضياع الوحدة الإسلامية بفعل سقوط الدولة العثمانية، والثاني وهو شعور أعمق وأخطر: أين تكمن الشرعية التي نعيش في كنفها، وهل نحن حقا مسلمون؟! وما معنى أن نكون مسلمين؟ وهو سؤال الحاكمية الأساسي في كل الحركات الإسلامية.

هذه الأسئلة والهواجس هي التي أنتجت أمثال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهي أسئلة لم تحسم بعد في المجتمعات الإسلامية، ولذلك فنحن، للأسف، بانتظار أسامة آخر، وأيمن آخر، وسيد قطب آخر، وجهيمان آخر، وعبد العزيز المقرن آخر... بل وكل حركات الإسلام السياسي.

المشكلة ليست الأجساد التي تقتل أو تؤسر.. بل في النفوس والعقول الحائرة...