أكثر أعداء النظام السوري ضراوة!

TT

ليس المتظاهرون الذين يتكاثرون في المدن والنجوع العربية السورية هم أكثر أعداء النظام السوري ضراوة، نعم هم يطالبون بالحرية وهو لا يقبل هذه المطالب وبتلك الطريقة التي ينادون بها.

النظام يريد أن يقدم الإصلاحات كما يفهمها، ولأن ذلك الفهم قاصر عن فهم متغيرات العصر، فإن البديل هو الرصاص والكلام المرسل على شاشات التلفزيون. أكثر أعداء النظام السوري ضراوة هم المتحدثون باسمه، الذين يطلون على الشاشات العربية كل مساء. مجموعة من التبريرات التي لا تقنع أحدا حتى البسطاء من الناس، وأكاد أقول حتى قائليها؛ لأنها تخرج باردة منمقة لا حياة في كلماتها. النظام السوري يحتاج إلى أن يقول له أصدقاؤه، عليك بتطبيق القاعدة الذهبية، وهي أن الأدوات القديمة لا تصلح لحل المشكلات الجديدة. تحت هذا العنوان يجب أن يتوقف الناطقون عن الكلام الخشبي، فيسوقون التبريرات للقتل المنظم في شوارع المدن السورية؛ أن هناك مؤامرة خارجية ممولة من جهات معروفة للإطاحة بالنظام عن طريق التظاهر والاعتصامات! كيف يتم ذلك في نظام مثل النظام السوري به العديد من أجهزة رصد المواطنين في كل شاردة وواردة منذ زمن طويل؟! آخرون يتحدثون عن أشخاص بعينهم لهم اليد الطولى في الحشد الشعبي المتزايد! وهل يعقل أن يقوم شخص أو عدة أشخاص، مهما أوتوا من نفوذ، بحشد هذه الآلاف المؤلفة من الناس، معرضين أنفسهم للقتل، بسبب بضعة دولارات، إن كان ذلك صحيحا؟ أما الحديث عن عصابات مسلحة فذلك أغبى التبريرات، فهل ظهرت هذه العصابات فجأة، وسار خلفها الناس لأنهم يعشقون العمل مع العصابات، وهل عرضُ شخص مجهول أو اثنين على شاشة التلفاز ومحمل بالكثير من الاعترافات التي لا تقنع المشاهد اليوم في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين بما يقوله أولئك الأشخاص المغلوبون على أمرهم، إلى آخر تلك التبريرات.

في حقيقة الأمر، إن تلك التبريرات تقدم وقودا لعدم التصديق أكثر مما تقنع المشاهد البسيط بالحجج المقدمة، وهو يرى بأم عينيه صور الجثث التي تنقلها وسائل الاتصال الحديثة، فمجرد وجود تليفون نقال اليوم يستطيع التقاط الصور، تصبح تلك الصور متاحة للعالم في التو واللحظة.

هذه التبريرات القريبة إلى السذاجة تزيد من اقتناع المتابع الفطن أن النظام السوري القائم يزيد من الحُقرة لشعبه ولعقول الآخرين في العالم.

(الحُقرة) هي حزمة من الممارسات التجاهلية، وتعني فشلا ذريعا في إدارة المجتمعات إدارة حديثة، تأخذ في الحساب الثورة التقنية التي اجتاحت العالم. أي غياب التنبؤ السياسي الذي يوائم بين متطلبات الأجيال الجديدة المنفتحة على العالم، وبين الممارسات القديمة القائمة على التخويف والتجهيل.

هذا الغياب هو الذي جعل من بن علي في تونس، ومبارك في مصر وعبد الله صالح في اليمن والقذافي في ليبيا من بعض زعامات أخرى، تتجاهل المتغيرات إلى درجة نفي أن تكون موجودة. ليس المهم أن تكون هناك ديمقراطية بمعني صناديق انتخاب ومكان يتخاطب فيه المنتخبون بأشنع الألفاظ يُسمى في فضائنا العربي برلمانا، فالبرلمانات كثيرة نسبيا، المهم أن يكون هناك قانون عقلاني سائد، وأن يحترم هذا القانون بدقة وبحزم، ويطبق على جميع شرائح الشعب. تجاهل الناس في ما أسميه بـ(الحُقرة) هو الذي جعل القذافي يطلق (أكذوبة سياسية وراء أخرى) ويصدقها، فقد اقتنع أنه لا رئيس ولا مسؤول، هو فقط قائد بل كاد أن يقول - العياذ بالله - رسول، وترك أبناءه يعيثون فسادا في كل مقدرات ليبيا. إلى درجة أنه يثير زوبعة سياسية إن مس أحد أبنائه – جراء استهتاره – في أي بلد، كما حدث في سويسرا، أو يدفع بلايين الدولارات من المال الليبي تعويضات لجرائم ليس للشعب الليبي أية يد فيها.

لذلك نجد أن أوسع تجمع ليبي مثقف هو خارج ليبيا، وأكبر تجمع إنساني مصري متعلم ومدرب، هو خارج مصر، وقد كانت الدراسات التي أجريت على شباب مصر في سنوات مبارك الأخيرة، أن أمنيتهم الغالية بعد التخرج الهجرة خارج مصر. ليس لأن مصر فقيرة، بل لأن احترام الإنسان فيها وصل إلى مرحلة لا تطاق من الدونية. الرئيس السابق حسني مبارك، لما قيل له إن الناس لم تعجبهم نتائج انتخابات مجلسي الشعب والشورى لعام 2010، وإن المعارضة تفكر بإنشاء (برلمان بديل) قال بكثير من الاستخفاف (خليهم يتسلوا)! يُشل البلد من أقصاه إلى أقصاه، إذا تحرك الرئيس من مكان إلى آخر، دون احترام لمصالح الناس، يتعطل بعضهم على الطرقات لمدة ساعات لأن الرئيس سوف يمر. تلك حُقرة للناس، وأمثلة أخرى تبين مدى استهتار القيادات بمصالح ورغبات الناس.

نصف السودان ينفصل عن شماله بسبب هذا الضعف الهائل في إدارة الدولة، وربعه الأخير (منطقة دارفور) تجري فيه حرب شبه أهلية، والنظام يتعمد (حُقرة) الأحزاب الأخرى ومطاردتها وسجن نشطائها.

في مذكراته الأخيرة التي صدرت في كتاب، ينقل لنا الإمام الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، ورئيس وزراء سابق، قول المعارض الرئيسي في الجنوب ورئيس حكومتها سلفاكير، إنه لولا الحياء، لأقام الجنوبيون تماثيل لكل أعضاء قيادة (ثورة الإنقاذ)، حكومات البشير المتعاقبة، لأنهم الذين أقنعوا بسياساتهم - المعتمدة على الحرب والتصفية - الجنوبيين بالتوجه إلى الانفصال! وهكذا تم الانفصال بأغلبية بلغت تقريبا الإجماع! بعد حروب سقط فيها مئات الآلاف وشرد فيها تقريبا نفس العدد من البشر!

سوريا ليست استثناء، فعدد كبير من المثقفين السوريين، إما في السجون ولسنوات تطول عن سنوات عذاب أيوب، أو هم خارج سوريا، أطباء وكتاب وأساتذة ومهندسون وسياسيون كلهم هجروا بلادهم بسبب تلك الحُقرة التي فروا منها كبشر أسوياء، يؤخذ البريء في بلادهم قبل المذنب إلى السجون لبضع عشرات من السنين.

بعد أن وقفت المطبعة، بعد اختراعها، على أبواب المسلمين 300 عام، دخلت إلى بلادنا، وكانت المطبعة قد أحدثت ثورة في العالم الذي اخترعت فيه (أوروبا) كما أن اكتشاف البخار غير من العالم من جديد، إلا أن المطبعة والبخار بقيا لسنوات يراوحان أمام الشعوب العربية، اليوم وسائل الاتصال الحديثة، ما إن تخرج من مصانعها حتى تصل إلينا، وسائل الاتصال هذه لم تعد تتلكأ وأتاحت للمواطن العادي سرعة تاريخية غير مسبوقة في الاتصال، ذلك ما لم يفهمه البعض بعد. اعتقد ذلك البعض أن رفع الأسوار هو الحل والإكثار من بناء السجون أو الحلول الأمنية، في حين أن البث الفضائي يأتي من أعلى! قوة الأفكار فاقت كل قوة، والأفكار لا تستأذن في الدخول.

يقابل المواطن العربي بحقران ليس له مثيل في كل شيء تقريبا، فالكبير لا يقف على طوابير الانتظار، ولا يتفحص في وجهه الشرطي في المنافذ، كونه متهما حتى يثبت العكس ولا تحترم أقدميته في وظيفة يريدها من هو في السلطة لقريب غير مؤهل، ولا تعطى له حقوقه في المحكمة، ولا يحترم أحد خصوصيته، بل آدميته. هو مدان قبل أن يتكلم، ومتهم قبل أن ينطق!

أمام كل ذلك، اقتنع المواطن العربي، أمام شعور عام وسائد بعدم الاحترام، بأن خسارة حياته لم تعد خسارة، هي خسارة في دنيا لا قيمة له فيها، لذلك لم يعد الخوف هو الرادع، فانفجرت الحناجر، وبدأ التصدع، المشكل أن هذا التصدع يزداد كلما فتح إعلامي موال فمه بالكلام الكاذب، فيزيد النظام أعداءً.

آخر الكلام:

الأفكار الجديدة أول ما تولد تبقى محاصرة، وإن شبت عن الطوق لا يستطيع أحد أن يوقف انتشارها، خاصة إن جاءت في وقتها المناسب.