الكل صقور في عش الإخوان

TT

خلال هذا الأسبوع، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن تأسيسها لحزب سياسي مستقل من أجل أن يمثل الجماعة في الانتخابات القادمة. الحزب الجديد أطلق عليه اسم «الحرية والعدالة»، وهو اختيار من الواضح أنه جاء ليواكب - شكليا - مرحلة الانتفاضات الشعبية. في أول تصريح له كرئيس للحزب الجديد، قال الإخواني محمد مرسي: (مجلس الشورى ناقش الكثير من القضايا، وصدرت عنه هذه القرارات التي نتمنى أن تكون في صالح مصر في ظل دستور وقوانين نتمنى أن تكون في خدمة المصريين)، مضيفا أن: (الحزب سيكون مستقلا تماما عن الجماعة في كل شيء).

كيف يكون الحزب الجديد مستقلا عن الجماعة؟ هذا سؤال مشروع، إذ ما الحاجة التي تدفع حزبا عمره قرابة الثمانين عاما إلى إنشاء حزب جديد مستقل عنه - كما يزعم - إداريا وسياسيا. العارفون بموضوع الإخوان يبررون هذا الإجراء تحت ذريعة أن الدستور (المعدل) ما زال يحظر تأسيس الأحزاب على أسس دينية، حيث إن المادة الخامسة تنص على أنه (لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس ديني).

كل ما يعنيه ذلك، هو أن الحزب الديني الأقدم في المنطقة لا يريد تغيير مبدأ التوظيف السياسي للدين، أو إعادة صياغة دستوره ليتوافق مع الشرط المدني للدستور الوطني للدولة. أي إن الحزب الجديد سيكون عبارة عن «واجهة»، أو «محلل» للحزب القديم.

حقيقة، لا ندري كيف يمكن لحزب يرفع شعارا مدنيا أن يكون مملوكا لحزب آخر يرفع شعارا دينيا، ولا كيف يمكن تسويغ ذلك قانونيا ودستوريا. إذا كان الحزب الجديد مرجعية تأسيسه تعود إلى قرار لمجلس شورى جماعة الإخوان التي ترفع شعارا دينيا، فإن الحزب بالضرورة مبني على أساس ديني يفرق بين المواطنين.

في المنطقة يتحدث البعض عن «الربيع العربي» الذي بزغ في تونس ومصر، ولكننا لا نرى - بالضرورة - أن ذلك التغيير قد أصاب كبرى الحركات الأصولية في المنطقة، فهي لم تضطر إلا إلى تغيير لوحة الحزب على بعض المقار ليحمل عنوانا فرعيا جديدا لآيديولوجيتها القديمة.

لأكثر من ستة عقود، والكتاب والباحثون يجادلون بأن حزب الإخوان المصري يضم حمائم وصقورا، وأن إصلاح - أو تطوير - الحزب يقف ضده مجموعة من الحراس القدامى، ولكن عقدا بعد آخر تتغير الوجوه والأسماء ويظل الحزب على حاله، فأدبياته التي صيغت في أجواء من الصراع مع أحزاب اندثرت والصدام مع حكومات تولت، لا تزال هي المعين الذي لا ينضب للمنضمين الجدد.

يجادل الإخوان بأنهم «دعاة لا قضاة»، وأنهم يقفون ضد كل أشكال العنف، وهذا صحيح - نسبيا - في أن الجماعة ليس لها جناح مسلح تعترف به، ولكن مشكلة الإخوان ليست في عدم حملهم للسلاح، بل في إنتاجهم لثقافة أصولية صدامية مع العالم المدني. هم يعتبرون أنفسهم دعاة، والمواطنين أهل دعوة، وهناك مرشد للجماعة تجب مبايعته.

الإخوان، ومنذ اغتيال النقراشي باشا (1948) أفرزوا بشكل مباشر - وغير مباشر - جل الحركات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة. فإنه قلّ أن تجد شخصية ارتبطت بالتطرف الديني إلا وقرأت أدبيات الجماعة، أو تربت في محاضنها، أو تعرضت لشيء من خطابها وأفكارها. لا يعني هذا أن الإخوان مسؤولون عن كل تلك الأعمال الدموية التي قامت بها جماعات الجهاد و«القاعدة» وغيرها، ولكن من الضروري أن يقال إن هناك خيطا رفيعا يفصل هذه الجماعة عن كل تلك الحركات والجماعات وهو عدم حمل السلاح، أو بتعبير أدق عدم الضغط على الزناد.

ثقافة الجماعة لا توصلك إلا إلى طريق واحد هو حتمية «الحل الإسلامي»، أو بعبارة أخرى، حتمية الحكم الشمولي للجماعة. الجماعة تربيك على التشدد والتطرف الديني، ولكنها تقول لك في النهاية إنها (لا) تؤمن بحمل السلاح، أي إن ذلك اجتهاد فقهي للمصيب أجران، وللمجتهد المخطئ أجر.

إذا كان البعض يعتبر ذلك تجنيا على الجماعة، فليراجع بيانها الخاص بمقتل أسامة بن لادن، حيث تحفظت الجماعة على سفك دم «الشيخ»، واعتبرت أن حادثة 11 سبتمبر ألصقت بتنظيم القاعدة بهدف تشويه الإسلام، وأن المقاومة مشروعة ضد ما يعتبرونه احتلالا في العراق وأفغانستان. إذن، منطق «القاعدة» والإخوان واحد، ولكنهم مختلفون في الاجتهاد، حيث يبرر الإخوان حمل السلاح ضد المحتل وأعوانه (من المواطنين)، بينما يرى الآخر جواز قتل الجميع ونقل المعركة إلى أرض العدو، فلا فرق بين مدني أو عسكري. بيان الجماعة لا يعترف ضمنا باستقلال دولة كالعراق أو أفغانستان في قرارها السيادي فهي بالنسبة له أرض مسلمة محتلة. هل نحتاج بعد ذلك إلى دليل على مدى «جاهلية» منهج هذه الجماعة؟!!

في كل مرة يتم تناول أزمة الجماعة تتم الإشارة إلى كلمة هنا، أو حديث هناك أدلى به عضو الجماعة (الحمامة) عن تطلع الحزب في برنامجه القادم نحو الديمقراطية، أو احترام الحقوق المدنية، أو حقوق المرأة، أو حرية الفكر، أو حقوق الأقليات، ولكن لا يلبث إلا أن يخرج عضو آخر (من الصقور) بتصريح ينقض كل تلك التصريحات الوردية والحالمة، والمحصلة أن الجماعة تغير من مواقفها التكتيكية، أو تناور سياسيا، ولكن لم يحصل أن حدث هناك اجتهاد فكري حقيقي داخل الجماعة لتغيير آيديولوجيتها (المتطرفة) حتى تتحول إلى حزب مدني، فأي اجتهاد جديد ينتهي بصاحبه إلى خارج الحزب لأن الجماعة تسمح بالاجتهاد في الفروع لا الأصول.

في كتابها «الإخوان المسلمون: عبء التقاليد» (الساقي 2011)، تذكرنا إليسون براغيتر أن جماعة الإخوان لا تزال حركة ماضوية وغير قادرة على القطيعة مع ماضيها المتشدد، وأن برنامج الإخوان طوال العقود الماضية لم يكن إلا مزيجا من البراغماتية والانتهازية، وموقفا مضطربا تجاه استخدام العنف.

هناك مشكلة دائمة في التعاطي مع الأحزاب والحركات الدينية الأصولية، وهي أنها دائما ما تحتوي على خطاب متناقض، وتتم قراءة ذلك في ثنائية الصقور / الحمائم. ولكن الحقيقة الغائبة هي أنه في عالم الأصوليات الكل صقور، لا فرق بين عضو وآخر إلا في مقدار لطافته الشخصية، ولكن أساس التفكير واحد. البعض يريد أن يصبر عليك حتى تهتدي لحكمه، والآخر يريد أن يفرض عليك حكمه الآن.

اليوم، يتفاءل البعض بأن الإخوان سيضطرون للتغيير الديمقراطي / المدني بسبب «الثورة» المناهضة للاستبداد التي تعم المنطقة، وأن من شأن إتاحة الفرصة للعمل السياسي للجماعة من دون قيود أن يعزز من فرص تحولها نحو المدنية بعد أن تنعم بالسلطة، وأن الناس سيتاح لهم الحكم على الجماعة بناء على أدائها لا أقوالها، ولكن هؤلاء ربما ينسون أنهم يتحدثون عن جماعة دعوة ترى الناس ضالين للطريق، جماعة لم تغير حتى اليوم شعارها فكيف لها أن تقبل بشروط اللعبة الديمقراطية التي لا تتوفر إلا بمناخ علماني / مدني.

لقد آن لعميد الأحزاب الشمولية الأخير أن يأخذ دوره في السلطة، ولكن هل على الآخرين أن ينتظروا منه أن يمنحهم «الحرية» و«العدالة»؟!