ماذا عن الـ«بن لادنية»؟!

TT

شكل مقتل عراب تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بهذه الطريقة الميلودرامية التي لم تكن لتخطر على بال أحد حدثا استثنائيا بمدلولاته الرمزية ليس إلا، وبما يحمله من ثقل «معنوي» وصورة نمطية أسهمت طريقة إدارة الولايات المتحدة لملف الحرب على الإرهاب في ترسيخها؛ حيث كرست، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، في تشكيل ملامح المعركة مع التطرف لتشخصنها في ملاحقة «رموز» خلقت منهم أساطير وأبطالا خارقين بفعل قوة الميديا وبشكل مفتعل في كثير من الأحيان لتهرب بذكاء سياسي في إدارة الأزمات من مساءلات واستحقاقات قانونية وحقوقية، وبالتالي تلقف الرموز الخارقون للعادات والصانعون للعجائب والمعجزات الرسالة فتحولوا إلى شخصيات اعتبارية مشحونة بالأنا والكاريزما ومدفوعة بوهم البطولة ليؤسسوا تيارا معولما وظاهرة عابرة للقارات يلتحق بها الكثير من المجموعات التي تشاطرها العداء للغرب والولايات المتحدة تحديدا، كل يقتبس من وهج ذلك التيار، مما يجعله فاعلا على الأرض وفي سياقه الخاص؛ حيث أجندة كل تنظيم محلي تختلف عن الأخرى في الأهداف المرحلية وطريقة عمل التنظيم واستقطاب الكوادر، لتصب في النهاية نتائج العنف الفوضوي في رصيد «القاعدة»، التيار المعولم، بثمن بخس لا يعدو أن يكون إضفاء الشرعية على العمليات ومباركة فاعليها ورفعهم إلى مرتبة الشهداء.

رحيل «الرمز» مهما كانت سطوته المعنوية وحمولاته الكاريزمية من الناحية العملية لا يعني الكثير متى ما بقي الإرث الضخم والهائل والأدبيات التي بدأت منذ لحظة إعلان رحيل بن لادن عملها، وعلى عكس كثيرين ذهبوا مباشرة إلى تتبع تفاصيل عملية الاغتيال الدرامية وما تحمله من أسئلة مثيرة حول التوقيت والأداء وطريقة إنهاء الملف، ذهبتُ لقراءة وتتبع المنتديات الجهادية الفاعلية، «الإرث» الحقيقي الذي خلفه بن لادن، فوجدتها بعد ساعات قليلة من الإفاقة من الصدمة والحديث عن شهيدها ورمزها الأول استحضرت كل أدبيات التعلق بالأشخاص مقتبسة «من كان يعبد أسامة فإنه قد مات»! هكذا دفنوا جثة الرمز المعنوية حتى قبل أن يعلموا مصير جثته التي انشغل الآخرون بها ومآلها بعيدا في قاع المحيط في رسالة تختلف كثيرا عمَّا يفكر به الآخرون من أسئلة هي انعكاس لطبيعة الصراع والموقف من الولايات المتحدة، وهو الموقف ذاته الذي تكرر سابقا مع إعدام صدام، نفس الذهنية التي تبحث عما وراء الحدث، مما يشعل معركتها من نظريات مؤامرة وتكذيب واستثمار للحدث لخدمة أجندتها، كل بحسبه؛ فأجندة هنية المحاصر تختلف عن طموحات رفاقه من الإخوان في مصر الذين يريدون القفز على مرحلة الحرب على الإرهاب حتى لا يعكر عليهم الحدث ربيعهم المقبل من رحم الثورات، شأنهم في ذلك المكر السياسي شأن أوباما الذي رسخ بإعلانه بتلك الطريقة الجزلة للحدث الكبير مقولة «أوباما قتل أسامة»، وهو ما ستكون له انعكاسات إيجابية على «ربيعه» الانتخابي المقبل، الذي بدأت بوادره في ارتفاع سعر الدولار الذي لا يكذب عادة.

الجميع يتحدث عن بن لادن الذي يعتبر الآن جزءا من الماضي، لكن لا أحد يهتم بالـ«بن لادنية»، الفكرة الحاضرة والمستقبلية، حتى ولو على سبيل استشراف ما الذي سيفعله أبناء بن لادن العقائديون ممن آمنوا بآيديولوجيته العنفية في التغيير، لا أحد يتحدث عن تركته وميراثه الفكري الضخم الذي لا يدل كمونه وضعفه وتراجعه على مواته، والمرجح أن التنظيم - عدا محاولات صغيرة ومحدودة للانتقام يمكن أن تكون العزاء الذي يليق ببن لادن - لن يخرج كثيرا عن أجندته في التوقيت لمرحلة العودة المرتبطة بشروط ومناخات محددة تتصل بالقدرة على الفعل المؤثر واستثمار الأزمات والبقاء إلى ذلك الوقت في استقطاب المزيد من المناصرين عبر التعبئة من خلال الآلة الإعلامية الضخمة والشبكات الممتدة على فضاء الإنترنت.

إرث «القاعدة» يحدثنا عن مفهوم «البقاء على العهد» الذي سيكرسه التنظيم عبر قدراته العالية في إنتاج الميديا المؤثرة بكل منتجاتها صوتا وصورة وكتابة، وهو الأمر الذي تكرر مع مقتل كل رموزه السابقين: الزرقاوي وأبو الليث الليبي وغيرهما، وسيزداد كما ونوعا مع رحيل الرمز الأول.

في مقابلة إعلامية للقيادي القاعدي مصطفى أبو اليزيد، وفي خضم سؤال عن صحة علاقة «القاعدة» الأم بكل ما ينسب إليها من أحداث وأعمال إرهابية هنا وهناك، قال: «نحن في تنظيم القاعدة الولاء العقائدي لدينا مقدم على الولاء التنظيمي»!

هذه العبارة ذات الدلالات العميقة على استراتيجيات التنظيم، التي دشنها بعد فترة الملاحقات وانهيار البناء التنظيمي التقليدي للمنظمة، يمكن أن تكون مدخلا مفسرا وشارحا لطريقة تعامل «القاعدة» مع رحيل زعيمها، لكن الأزمة الآن تطال المتعاطفين مع خطاب «القاعدة» الفكري وإن كانوا يتحفظون على طريقة أدائها الميداني، وهم الآن الأكثر نحيبا وعويلا حتى من أنصار «القاعدة» الذين يبدو أنهم في طريقهم إلى طي صفحة رحيل القائد بطريقة بطولية كما يرون.

المتعاطفون مع خطاب الإرهاب هم أكثر الفئات ذهولا مما حدث، على الرغم من أنهم في أحداث سابقة يتحايلون بطرق ملتوية وعبر أشكال كثيرة شديدة التذاكي، ولعل أبرزها عدم ممانعتهم بأي أعمال عنفية خارج بلدانهم باعتبارها جهادا مشروعا، مع أنها تستهدف كيانات سياسية مستقرة، وسكوتهم وصمتهم المطبق بعد أي عملية في الداخل أو الاكتفاء بعموميات فقط لأداء الواجب، وهي لغة خطاب يفهمها القاعديون بأنها للاستهلاك العام الإعلامي؛ لذا لا يوجهون اللوم لمثل هذه الرموز، ولا أدل على ذلك من إجابة الظواهري ذات مرة حول الموقف ممن يؤيد التنظيم، لكنه يختلف معه حول موقفه من بعض الدول والأشخاص والمنظمات، الذي اعتبر أن ذلك اجتهاد خاطئ منهم وأن العمل في نصرة الإسلام يجب ألا يقتصر على العمل السلمي الذي لا يجدي، وهو ما يذكرنا بما قاله مفكر «القاعدة» أبو مصعب السوري في كتابه «دعوة إلى المقاومة الإسلامية الشاملة»، الذي يعتبر موسوعة للجهاد نشرت على شبكة الإنترنت سنة 2005 من أن «(القاعدة) ليست منظمة ولا ينبغي لها أن تغدو منظمة»، وإنما هي «دعوة ومرجعية ونهج».

بطريقة تبدو ساذجة في قراءة تاريخ الأفكار والمنظمات الثورية، أعلن، بفرح بالغ، كثير من أعداء «القاعدة» نهاية التنظيم، لكن ما يجهله كثير من هؤلاء المغتبطين بالانتصار الدرامي على «جسد» بن لادن أن فترة سكون الإرهاب يجب ألا تجعلنا نتفاءل كثيرا بأن القضية انتهت بقدر ما يدعونا ذلك إلى القلق؛ لأننا نترقب دورة جديدة يعيد الإرهاب فيها إنتاج نفسه؛ فهو سيظل موجودا ببقاء مسبباته ودوافعه وروافده الفكرية مهما كانت الجهود الأمنية حاضرة وقوية؛ فهي ستكون قادرة على معالجة نتائجه، أو، في أفضل حال، الحيلولة دون حدوثه، لكن هذا لن يسلب الإرهاب حال الكمون الذي يمكن اعتباره عرضا مرضيا في أحسن الأحوال.

مقتل بن لادن، بهذه الطريقة التي تضافرت فيها جهود استخباراتية وأمنية وعمل دؤوب في تتبع الشخص، يجب أن يطرح سؤال «الجدوى» في وجه طريقة الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب؛ فالانكفاء على الحلول الأمنية وحدها وانتظار رد فعل «القاعدة» سيكلفان الكثير، إن كان العمل العسكري بإنجازاته قد نجح فهو يعمل على العرض ولا يستأصل مسببات الورم، وهو ما يدعونا إلى ضرورة تبني استراتيجية دولية من الآن استثمارا لرمزية الحدث في قراءة ثقافية لظاهرة الإرهاب، وهو الأمر الذي لمح إليه التعليق السعودي على الحدث الذي دعا إلى أن يسهم ذلك في مكافحة الإرهاب، في إشارة ذكية ولماحة إلى أن ما حدث ليس نهاية القصة وأن وقت الحفلة قد ابتدأ.

المجتمع الدولي بمؤسساته مطالب باستراتيجية استباقية شاملة تقيه شر الإرهاب وشروره عبر إعطاء الأولوية للجوانب الفكرية والثقافية، وهو ما ظل، منذ رفع شعار الحرب على الإرهاب، مقصورا على النخب الثقافية التي لم يتم الإصغاء إلى صوتها كثيرا، بل وقعت بين فكي كماشة؛ فهي من وجهة نظر الإرهابيين والمتعاطفين معهم «طابور خامس» يكتفي بنقد معضلة التطرف والإرهاب المسلح من ناحية الحجج الدينية لهذا الخطاب في قالب إشكالي كثيرا ما يفهم بشكل خاطئ.

وضعية العنف المسلح اليوم لا تزال - وستبقى - تنذر بأخطار كثيرة؛ فهي بسبب تململها من آليات تضييق الخناق على السفر والمشاركة في القتال في مناطق التوتر باتت تفكر في فعل شيء يحقق لها كينونتها المتوهمة؛ فالأجيال الجديدة من الشباب المغرر بهم المنضوين تحت راية «القاعدة» هم في الحقيقة كوادر تنفيذية فقط يأتون فقط بدافع الحماسة من دون أن يدركوا أي هدف قدموا من أجله، فهم ضحايا شعارات عامة.

مما لا شك فيه أن هذا الرحيل البطولي من وجهة نظر «القاعدة» والانتصار الهوليوودي على طريقة رامبو من وجهة نظر الأميركيين، سيسهم في ميلاد أجيال جديدة من «القاعدة» أو ما تمكن تسميته بالموجة القاعدية «الرابعة»، التي يمكن أن تستغل مناطق التوتر في اليمن وليبيا والمغرب العربي، إضافة إلى قوائم طويلة من الشباب الذين ستساهم ميديا القاعدة التراجيدية في استقطابهم؛ فمن عادة الجماعات الإرهابية أنها تقوم بإعادة بناء نفسها، في حين أن استراتيجية مواجهة الخطاب المتطرف غائبة؛ فالجهود الفكرية لمحاربة «فكر القاعدة» لا ملاحقة رموزها ما زالت دون المستوى المطلوب؛ لذا فمن المبكر الحديث عن مناعة اجتماعية كاملة تجاه أفكار التطرف، وإن كانت ثمة بوادر رفض اجتماعي حاد لـ«القاعدة» كتنظيم، وهذا بحد ذاته أمر مهم، إلا أن الأهم هو إيجاد مناعة ضد الفكر المتطرف الذي يتقاطع مع «القاعدة» في جملة من الأفكار المشتركة، وإن كان يفضل تغيير العقول بشبكاته الإعلامية والاجتماعية من دون أن ينخرط في العمل المسلح.

[email protected]