البعث.. نهاية حزب انتهى منذ 40 عاما!

TT

لم تثر استقالات عدد من أعضاء حزب البعث الحاكم في سوريا أي اهتمام على الصعيد الداخلي، ولم تؤثر هذه الاستقالات على نظام الرئيس بشار الأسد، والمسألة ليست أكثر من مجرد فقاعة إعلامية فقط، فهذا الحزب تحول مع الوقت إلى وسيلة للتوظيف والوصول إلى المواقع، وهو لم يواجه أي امتحان جدي منذ تسلمه الحكم في 8 مارس (آذار) عام 1963 ولا مرة واحدة، كما أنه بقي خلال الـ30 سنة الأخيرة على الهامش من حيث التأثير والفاعلية.

أصبح هذا الحزب هو ثمرة اندماج بين حزب البعث العربي بقيادة مؤسسيه ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكلاهما درس في فرنسا وتأثر بأفكار رواد القومية الأوروبية، وكلاهما تأثر أيضا بأفكار المناضل «اللوائي»، نسبة إلى لواء الإسكندرون، زكي الأرسوزي، وأخذ فكرة «البعث» منه والحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني وغلبت عليه النزعة اليسارية المتطرفة.

يومها كان العرب قد انتقلوا توا من الحكم العثماني المتخلف، الذي جثم فوق صدورهم لنحو 4 قرون متتالية، وكان حلم استقلالهم في دولة واحدة، تمتد من تطوان في الغرب وحتى رأس الخيمة في الشرق، ومن جبال الأناضول في الشمال وحتى عدن وباب المندب في الجنوب، قد تبخر عندما وجدوا أنفسهم بعد الحرب العالمية الأولى عددا من الدول المستعمرة ونهبا للدول الغربية التي انتصرت في هذه الحرب، وفي مقدمتها فرنسا والمملكة البريطانية المتحدة.

لهذا فقد اتفق المؤسسون على أن يكون شعار هذا الحزب: «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة»، وأن تكون منطلقاته: «وحدة - حرية - اشتراكية» وأن يتضمن دستوره بندا ينص على أنه حزب انقلابي، ولقد فسر هذا البند لاحقا على أن الانقلاب المقصود هو على الفساد والظلم والطغيان، وحقيقة أن أول انقلاب نفذه «البعث»، وهو انقلاب 8 فبراير (شباط) عام 1963 في العراق، كان انقلابا عسكريا دمويا رد فيه البعثيون (الحرس القومي) بعنف أكثر من العنف الهمجي الذي مورس عليهم بعد انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 الذي أطاح بالنظام الملكي، والذي إن لم يشارك فيه الشيوعيون العراقيون فعليا فإنهم ركبوا موجته لاحقا واعتبروا نظامه نظامهم.

أخذ المؤسسان الأولان لهذا الحزب، ميشيل عفلق وصلاح البيطار، كلمة «البعث» من زكي الأرسوزي اللوائي، الذي لجأ إلى سوريا بعد سلخ لواء الإسكندرون وإلحاقه بدولة مصطفى كمال أتاتورك، التي أنشأها على أنقاض دولة الخلافة العثمانية، والمقصود بهذه الكلمة هو بعث الأمة العربية التي وصلت إلى ذروة تألقها من خلال الرسالة الإسلامية العظيمة التي أُرسل بها محمد، صلوات الله عليه، ومن خلال فتوحات مرحلة الخلفاء الراشدين والخلافتين العباسية والأموية، وحيث احتلت خلال نحو قرنين من الزمن مكانة طليعية بين أمم الأرض.

لهذا، وفي ظلال هذه الشعارات الجميلة «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة»، فقد انتشر حزب البعث، بالإضافة إلى سوريا، في كل بلاد الشام، انتشار النار في الهشيم، وبخاصة في الأردن ولبنان، ثم انتقل، خلال سنوات قليلة، من خلال طلبة الجامعات، وطلبة الجامعة الأميركية على وجه التحديد، إلى العراق واليمن بشماله وجنوبه، وإلى ليبيا وتونس والسودان، ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا أن بعض الرواد الأوائل من مؤسسي هذا الحزب أرادوه، على غرار حزب المؤتمر الهندي، حزبا اجتماعيا ثقافيا، ووفقا لأفكار زكي الأرسوزي، لكن هذا التوجه ما لبث أن انهار وتلاشى عندما تغلبت التطلعات الانقلابية على هذه النزعات الثقافية وعندما اندفع نحوه الضباط الشباب من الرتب الصغيرة، وبخاصة ضباط الطائفة العلوية أملا في أن يكون طريقهم إلى الحكم والسلطة.

لم يكن حزب البعث قد وصل إلى الحكم بعدُ عندما ذهب إلى الوحدة بين مصر وسوريا واعتبر شريكا للرئيس جمال عبد الناصر في هذه الوحدة، لكنه من خلال ضباطه وتنظيمه العسكري في الجيش السوري كان القوة الرئيسية الفاعلة والمؤثرة، وكان هو الذي دفع الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي دفعا إلى هذه الوحدة التي لم تعِش طويلا، والتي كان قد اضطر إلى حل نفسه من أجلها والاندماج في الاتحاد القومي «تحت ضغط هذا الرئيس المصري الأسبق» الذي كان معاديا للأحزاب والحزبية.

بعد الانفصال بنحو عام واحد استطاع فرع هذا الحزب في العراق القيام بأول انقلاباته العسكرية؛ حيث أطاح بنظام عبد الكريم قاسم وتسلم الحكم في 8 فبراير عام 1963 ثم بعد شهر واحد قام فرع سوريا بانقلاب مماثل وتسلم الحكم في 8 مارس من العام نفسه، لكن عبد السلام عارف، الذي كان شريكا في الانقلاب الأول، ما لبث أن انقلب على البعثيين العراقيين بعد أن دبت الخلافات بينهم وتحولوا إلى تيارات متصارعة أسست لخلافات سياسية وعقائدية لاحقة أدت إلى انشقاق تنظيمي بعد حركة 23 فبراير عام 1966، فأصبح هناك بعثان: بعث عراقي وبعث سوري، بقيادتين قوميتين وتنظيمين مستقلين دخلا في صراع مرير أدى إلى اللجوء إلى حرب الاغتيالات والتفجيرات المتبادلة.

بعد هذه التطورات المتلاحقة كلها، من الوحدة إلى الانفصال إلى انقلاب فبراير في العراق، الذي خسره البعثيون بعد شهور قليلة، إلى انقلاب مارس الذي بلور كتلة عسكرية مقابل كتلة مدنية في هذا الحزب على مستوى القيادة والقاعدة، جاءت حركة 3 فبراير عام 1966 بمثابة الضربة القاصمة للظهر، فالذين نفذوا أول انقلاب عسكري يقوم به «البعث» على نفسه، ومن بينهم الرئيس السابق حافظ الأسد، ألغوا القيادة القومية السابقة واستبدلوا بها قيادة جديدة، فأصبح الحزب حزبين، أحدهما غدا عراقيا بعد انقلاب عام 1968 في العراق، والآخر سوريا، ولعل ما كان بمثابة الطامة الكبرى أن البعث السوري قد أصدر حكما بالإعدام على «القائد المؤسس» ميشيل عفلق بتهمة الخيانة العظمى لانحيازه إلى البعث العراقي وانتقاله من المنافي في الخارج ليعيش في بغداد، وأن مخابرات نظامه في عهد الحركة التصحيحية هي التي قامت باغتيال صلاح البيطار في باريس في نهايات سبعينات القرن الماضي.

إن هذه هي الضربة الفعلية الأولى التي مزقت هذا الحزب، أما الضربة الثانية التي أنهته عمليا فهي ما يسمى «الحركة التصحيحية»؛ حيث نفذ حافظ الأسد انقلابه العسكري الذي استفرد بعده بالسلطة لـ30 عاما على رفاقه خلال انعقاد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي الذي لم يؤيده منهم سوى ثلاثة فقط من أصل 83 عضوا، هم، بالإضافة إليه: مصطفى طلاس، الذي غدا وزيرا للدفاع، وعبد الحليم خدام، الذي أصبح لاحقا نائبا لرئيس الجمهورية، أما الرابع فهو المحامي الأردني أحمد النجداوي الذي ما لبث أن انشق والتحق بـ«البعث العراقي».

إن هذه هي مسيرة حزب البعث العسيرة، وهي مسيرة تلخص مرحلة امتدت من عام 1947 وحتى انقلاب فبراير في العراق وانقلاب مارس في سوريا، ثم انقلاب 23 فبراير وانقلاب الحركة التصحيحية الذي قاده حافظ الأسد عام 1970، الذي كان هو نهاية هذا الحزب الذي بقي لاعبا رئيسيا في هذه المنطقة الشرق أوسطية لأكثر من نصف قرن، وبخاصة بعد انقلابه الثاني في العراق عام 1968، الذي باسمه انقلب صدام حسين على رفاقه عام 1979 وأعدم منهم نحو 50 قائدا في «وجبة» واحدة، والآن فإن زوال حكم بشار الأسد سيكون زوالا لاسم حزب كان مؤسسوه يعتقدون أنه سيكون حزب الدولة العربية الواحدة التي حلم بها العرب بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، والحقيقة أن زوال هذا الحزب الذي زال فعليا منذ أكثر من 40 عاما بات مؤكدا، أُسقط هذا النظام أو لم يسقط، والمعروف أن الحزب الشيوعي الذي كان عدد أعضائه قرابة 18 مليون عضو لم يستطع أن يفعل شيئا عندما انهار الاتحاد السوفياتي، وذلك لأنه كان مجرد تورم سرطاني مستنزف للدولة بالامتيازات والفساد.