عن أي أمين عام يبحثون وعن أي قمة يتحدثون؟

TT

من قبل أن تنتهي ولاية عبد الرحمن العطية (القَطَري) كأمين عام «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» (من أول أبريل 2002 إلى 31 مارس 2011)، كان هنالك توافُق بين قادة دول المجلس الست (المملكة العربية السعودية، الكويت، دولة الامارات، دولة قطر، سلطنة عمان، ومملكة البحرين) على مَن سيكون الأمين العام الخلَف. وكان العطية كما الذين سبقوه إلى هذا المنصب، من أول الأمناء عبد الله بشارة (الكويتي) من 26 مايو (أيار) 1981 إلى أبريل (نيسان) 1993، ثم فاهم بن سلطان القاسمي (الإماراتي) من أبريل 1993 إلى أبريل 1996، ثم الشيخ جميل الحجيلان (السعودي) من أبريل 1996 إلى 31 مارس (آذار) 2002، تسلَّم الأمانة بهدوء وغادرها بتكريم. فالاختيار توافقي والأمين العام دائما تحت خط التوازن بحيث لا يقول من عندياته ما لا يكون القادة متفقين عليه، أي أنه أكثر التزاما ودقة مما كان عليه حال الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي سجل من المواقف خارج التشاور والتكليف ما أوحى بأن الجامعة هي إحدى الدول الأعضاء وأنه قائد هذه الدولة وليست الإدارة التي تنظم مؤتمرات وتُكلف بمهمات.

وطوال سنوات «مجلس التعاون الخليجي» كان الأمين العام يتولى بهدوء وينصرف بهدوء ويلقى التكريم والتعويض السخي ويعود حامدا شاكرا إلى منزله يؤلف أو يُستشار أو يعكف على كتابة مذكرات كما حال الشيخ جميل الحجيلان الذي طال انتظار عارفي قدراته وقارئي إطلالاته من خلال «الشرق الأوسط» إلى قراءة مذكراته التي يعكف على تسطير فصولها، والتي ستكون المذكرات المرجع لثلاثة عصور عربية في التاريخ الحديث للأمة كما المرجِع الآخر المتمثِّل باليوميات التي حوّلها عبد الله بشارة إلى كتاب عن سنوات عمله «بين الملوك والشيوخ والسلاطين» وبتدوين لا يؤاخذه عليه أحد من هؤلاء القادة، وتلك في أي حال إحدى ميزات قلم عبد الله بشارة الذي يواظب على الكتابة متناولا هموم الخليج مع تركيز على التحديات التي تواجهها الكويت من صراعات بعض أسرها ومن بني قومها أحيانا ومن جيران لها في مواسم التحرش.

هذا بالنسبة إلى الأمين العام «مجلس التعاون الخليجي» الذي قلده وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل يوم السبت 2 أبريل 2011 وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى الذي كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أمر بمنحه إياه تقديرا لجهوده إبَّان عمله أمينا عاما للمجلس. أما بالنسبة إلى نظيره الأمين العام لجامعة الدول العربية فإنه باستمرار إما تحت وطأة الصدمة كما حال الأول عبد الرحمن عزام باشا ثم خلفه عبد الخالق حسونة باشا، وإما نتيجة مأساة سياسية كما حال محمود رياض ثم حال الأمين العام الاستثنائي الشاذلي القليبي، وإما بفعل ارتباك في الخط السياسي للدولة مثل حال الدكتور عصمت عبد المجيد، وإما وسط استهانة عربية بالمنصب مثل حال الأمين العام الحالي غير المحسوم أمر من سيخلفه لمجرد انتهاء ولايته في مايو الحالي خصوصا أن التجديد لعمرو موسى غير وارد ما دام البقاء الطويل في المنصب أفرز ثورة في مصر غير محسومة النتائج حتى إشعار آخر. ومن الطبيعي عندما ينوء كرسي الرئاسة المصرية بالرئيس حسني مبارك الجالس طويلا فوقها، أن لا يبقى عمرو موسى سنوات أخرى في منصب الأمين العام، خصوصا أن الرجل وهو ما زال أمينا عاما للجامعة يتصرف كمرشح للرئاسة في مصر، وبذلك كان نقيض الطامح الطامع الآخر الدكتور محمد البرادعي الذي سبق عمرو موسى في التصرف كمرشح للرئاسة ومن قبل ما اصطلح على تسميتها «ثورة 25 يناير» مع الإشارة إلى أنه تصرف بعد ما كان بات خارج منصبه الذري الدولي.

ونشير هنا إلى مشهد لافت لنا ولغيرنا وصادم للأمين العام عمرو موسى حدث خلال قداس عيد الفصح (ليلة الأحد 23 أبريل 2011) في الكاتدرائية المرقسية للأقباط في ميدان رمسيس؛ حيث إن البابا شنودة تجاهل عمرو موسى فلم يرحِّب به كما ترحيبه وبالاسم باللواءات الأربعة الذين أوفدهم المشير طنطاوي لتمثيل «المجلس الأعلى للقوات المسلَّحة» للتهنئة، وترحيبه أيضا بنائب رئيس الوزراء يحيى الجمل وبالاسم، الأمر الذي جعل الأمين العام للجامعة عمرو موسى (ربما حضر بداعي الترويج لحملة الرئاسة) يغادر الكنيسة من دون أن يتقدَّم مع المتقدّمين لتهنئة البابا، في حين اغتنم الطامح الطامع للترشح للرئاسة الآخر الدكتور محمد البرادعي المناسبة وسارع إلى تقديم التهنئة ومن دون أن يستوقفه أن البابا شنودة تجاهل ذِكْره بالاسم وهو يتلو خطبة العيد.

في ظل فراغ ربما يصيب الأمانة العامة للجامعة العربية نتيجة حالة عدم الاستقرار التي تعيشها مصر والتي جرى التقليد على أن يخلف مصري مصريا في منصب الأمين العام وتتمسك الدولة المصرية بالمنصب كما لو أنه حق لا يمكن التنازل عنه.. في ظل الفراغ المحتمَل حدوثه جاء الخبر الصاعق لأهل الحكم المصري شبه المتماسك والمنقوص رئاستين أساسيتين من أصل المثلث الرئاسي وهما رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، في صيغة نبأ نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها الصادر الثلاثاء 5 أبريل منسوبا إلى «مصادر خليجية مطلعة» مفاده أن دولة قطر تعتزم ترشيح عبد الرحمن العطية الأمين العام لـ«مجلس التعاون لدول الخليج العربية» على مدى تسع سنوات والذي انتهت ولايته نهاية مارس 2011 لمنصب أمين عام الجامعة العربية، وتم تأكيد النبأ بإيداع سفير قطر ومندوبها لدى الجامعة العربية مذكرة رسمية تسلَّمها منه أحمد بن حلي نائب الأمين العام، وتتضمن طلب الترشيح رسميا مرفَقا بالحيثيات الموجبة ومن بينها: «إنه إيمانا من دولة قطر برسالة جامعة الدول العربية وأهدافها السامية ورغبة منها في أن تكون مساهماتها المستقبلية في أعمال الجامعة بقدْر أشمل وبما يتيح لها العمل على تحقيق أكبر فائدة مرجوة ومستطاعة من أهدافها فإنها تتشرف بترشيح السيد عبد الرحمن العطية لشغل منصب الأمين العام للجامعة بعد انتهاء فترة السيد عمرو موسى الأمين العام الحالي».

اللافت أن دولة قطر هي الدولة الوحيدة بين الدول الأعضاء في الجامعة التي سارعت إلى الرد على المذكرة التقليدية التي كانت الأمانة العامة بعثت بها إلى الدول الأعضاء تتضمن خلو المنصب وأن كل دولة يمكنها أن تتقدم بمرشح عنها. وما أقدمت عليه دولة قطر طبيعي من حيث المبدأ؛ حيث إن ميثاق الجامعة الذي حفِل سجله بعشرات الاختراقات لا ينص على أن منصب الأمين العام هو حكْر على مصر، ولكن مكانة مصر كدولة كبرى ومقر الأمانة العامة في عاصمتها القاهرة انتهيا إلى نوع من التسليم وشبه إجماع أن يكون الأمين العام دائما من مصر. ولم يحدث اختراق لهذا التقليد إلا بعدما أوجبت تداعيات إبرام مصر السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل استكمالا وتنفيذا للزيارة التي قام بها السادات إلى القدس وإلقاؤه خطاب التسوية - المصالحة في الكنيست، إسقاط (أشبه بالتجميد) عضوية مصر في الجامعة لبضع سنوات ونقْل مقر الأمانة العامة إلى تونس واختيار التونسي الشاذلي القليبي أمينا عاما، الأمر الذي عزز ظاهرة أن منصب الأمين العام هو لدولة المقر.

من قبل رغبة دولة قطر بأن يكون منصب الأمين العام لدورة من نصيبها، حاولت اليمن قبل أن يتولى عمرو موسى، وكانت زمنذاك مستقرة، ولم تنل مبتغاها. وحاولت الجزائر قبل أن يتولى عمرو موسى أيضا لكن مبتغاها أيضا لم يلق التجاوب.

وها هي قطر وفي غمرة المأزق الداخلي الراهن تحاول خطْف المنصب من مصر وتعتمد لهذا الخطف ورقة قوية على الصعيد المعنوي كون العطية رجل الستين عاما صاحب تجربة دبلوماسية عريقة عربيا ودوليا؛ حيث شغل منصب السفير والمندوب في عدة عواصم من بينها باريس والسعودية والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي. ولكن الأمور لا تقاس بهذا المنظور، ذلك أن انتزاع المنصب من مصر وفي هذه الظروف بالذات هو نوع من تخفيض نسبة النظرة الاعتبارية لها وهو أمر تأخذه المملكة العربية السعودية في الاعتبار ويجوز الافتراض أنها في نهاية الأمر سترى أن خير الأمور هو في بقاء شقيق مصري ما أمينا عاما للجامعة.

جاء نبأ ترشيح قطر أحد أبنائها لمنصب الأمين العام للجامعة العربية صادما، وجاء في وقت تراجُع الاحتمال غير الدقيق بأن القيادة الاستثنائية العسكرية لمصر المهمومة سحبت من التداول فكرة أن يتولى الدكتور مفيد شهاب منصب الأمين العام خلفا لعمرو موسى، وذلك بعدما كثرت التحفظات من القوى الثورية الجديدة الضاغطة على الرجل كونه من رموز عهد مبارك، مع أن كفاءته لا يُعلى عليها.

لكن ما إن تقدمت قطر بترشيح العطية، حتى سارع وزير الخارجية المصرية نبيل العربي إلى تسويق الدكتور مصطفى الفقي كمرشح لمصر. ومن دون أن يحدث تشاوُر مع القوى الثورية الضاغطة تم الإعلان رسميا في اليوم التالي (الاثنين 11 أبريل 2011) عن ترشيح مصر للدكتور الفقي الذي اعتبر أن ترشيحه يؤكد توجَّهه القومي كما أن عرّابه (أي وزير الخارجية الدكتور نبيل العربي) أضفى عليه من الإطراءات والتنويه بفكره وقدراته ما من شأنه تأمين إجماع مصري عليه. لكن القوى الضاغطة التي ترصد بدقة التعيينات والسياسات والتصريحات رأت «أن ترشيح مصطفى الفقي الذي هو (على حد تصنيف القوى تلك له) أحد أبواق نظام مبارك يُشكل ضربة لثورة 25 يناير».

ولم يشفع الماضي الدبلوماسي والبرلماني (سفير، ومساعد لوزير الخارجية، ومندوب مصر لدى الجامعة العربية، ونائب رئيس البرلمان العربي، وكاتب ومحلل سياسي) من أن يحظى الفقي بالمنصب المرموق خصوصا بعدما أعلن «ائتلاف شباب الثورة» لاحقا ترشيح السفير محمد رفاعة الطهطاوي المتحدث الرسمي باسم الأزهر لمنصب الأمين العام للجامعة بدلا من الفقي. لكن مع ذلك نرى الرجل ما زال يسعى ومن أجل ذلك زار السفارة السودانية في القاهرة ليعتذر إلى السفير عن تصريحات سابقة اعتبرها السودان مسيئة له، وأعلن السفير في القاهرة باسم بلاده قبول الاعتذار عملا بمبدأ: السوداني أخو المصري، وبالعكس. إذن وحتى إشعار آخر فنحن أمام معضلة وأمام أزمة وحالة انقسام عربي من نوع غير مألوف.

ويبقى الأهم؛ وهو أن هذا الانشغال بالأمين العام الذي يبحثون في أمره يتزامن مع الانشغال بمصير قمة بغداد، الذي يشبه الكلام العراقي الرسمي حول تلك القمة الكلام القَطَري الرسمي التحرشي حول «أمينها العام».