محمد عابد الجابري.. مقدمات المشروع

TT

حلت قبل يومين اثنين الذكرى الأولى لوفاة المفكر العربي محمد عابد الجابري، وأود بهذه المناسبة أن أقول شيئا مما أعتبره مقدمات للحديث عن الجابري ومشروعه.

الحديث عن مشروع فكري، عند مفكر من المفكرين، يحتمل أمرين اثنين لا أرى لهما ثالثا؛ فإما أن يكون صاحب المشروع على وعي كامل بما يخطط له، فهو يجعل لكل كتاب أو دراسة أو حوار وما شابه ذلك مكانا من المشروع.. وإما أن لا يكون المفكر على الدرجة الكافية من الوعي بما يقوم به؛ بل قد لا يقدر أن الأمر يتعلق بمشروع فكري يتصل بإنتاجه ووجوده. في هذه الحالة الثانية يكون عمل الباحث أو المحلل الناقد هو التنقيب في الإنتاج النظري للكاتب وكذا في مواقفه عما يشي بوجود ناظم يجمع بين المتفرقات ونبراس يوجه المفكر، موضوع الدراسة، في عمله ومواقفه معا. ربما كان من الكاتب، أحيانا، تعجب أو استنكار لما يتوهم باحث أو محلل ناقد أن الكاتب كان يقصده وأن مشروعا فكريا متكاملا يثوي خلف الحياتين الفكرية والوجودية. وإذ نتحدث عن محمد عابد الجابري، فنحن، في ما يبدو للوهلة الأولى، أمام مفكر يرجع إلى الفئة الأولى. والحق، في الأغلب الأعم، كذلك عند صاحب «بنية العقل العربي». ذلك أن الفيلسوف المغربي تحدث عن مشروع يرى أن كل كتاباته تكون خادمة له، تحدث عنه أول ما تحدث في التوطئة التي مهد بها لمجموع دراساته التي يضمها سفر «نحن والتراث»، وتحدث عن مشروع فكري بعد ذلك في «تكوين العقل العربي»، ثم كان الحديث عن المشروع لاحقا في عدد غير قليل من اللقاءات الصحافية. وبالجملة، فالمشروع - من حيث هو كذلك - بين في فكر الرجل، وهو كذلك في ما ألف القراء العرب الحديث عنه. ومن المألوف اليوم، في الخطاب العربي المعاصر، أن يتحدث المتحدثون عن مشروع الجابري: مشروع مداره نقد العقل العربي والبحث في إمكاناته وحدوده، ومشروع قوامه الإبانة عن المنظومات الفكرية الكبرى التي يراها صاحب «بنية العقل العربي»؛ البيان، والعرفان، والبرهان.. مشروع خطواته الكبرى تعلم عليها مؤلفاته في الترتيب الذي جاءت فيه: «نحن والتراث»، و«تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي» و«العقل السياسي» و«العقل الأخلاقي» - لتكون غايته القصوى ما حاوله الرجل في تفسيره للقرآن الكريم، أو لنقل، بالأحرى، قراءته لتفاسير المفسرين ونظره في التنزيل وأسبابه.. ومشروع يجد مكملاته وروافده الأخرى في مجمل قوله في الفكر العربي المعاصر «الخطاب العربي المعاصر»، وفي قضايا الديمقراطية، والتحديث والعولمة، فضلا عن إشرافه على النشرة الكاملة لأعمال حبيب الجابري، ومثله الأعلى، فقيه قرطبة وفيلسوفها، أبو الوليد بن رشد.

نحن إذن، للوهلة الأولى كما قلت، أمام مفكر لديه وعي كامل بما يقوم به، فهو يروم مد الجسور لمشروع فكري كامل هو قراءة التراث العربي الإسلامي، قراءة يكون التوسل فيها بالمنهجية المعاصرة، والغاية فيها الإسهام في بلورة مشروع عربي معاصر وشامل في التحرر والديمقراطية، والسبيل إلى ذلك (كما لم يفتأ الجابري يكرر القول ويعيده بكيفيات شتى) هو العمل على إشاعة الفكر العقلاني التنويري من جهة أولى، والعمل، من جهة ثانية، على قراءة التراث العربي الإسلامي على نحو يكون به «معاصرا لذاته» (يقرأ ضمن شروطه التاريخية وسياقه المعرفي) من وجه؛ و«معاصرا لنا» من وجه آخر، حتى نفيد منه الإفادة الضرورية لنا في معركة التنوير والحرية وبناء الوعي العربي المعاصر السليم. غير أنني أزعم أن جوانب أخرى من المشروع ظلت، في فكر الجابري، مبهمة، خفية أو مضمرة.. ومن ثم، فإن وظيفة القارئ تقوم بالضبط على تسليط الضوء عليها وعلى نقلها من الخفاء إلى الجلاء، وعلى انتزاعها من التضمين إلى التصريح.

الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، أريدها اليوم وقفة عند عتبة مشروع الجابري، وقفة مساءلة تتوخى البحث عما لم يكن بالضرورة مدركا عند الرجل، بل ربما لم يكن له أن يكون كذلك، وإنما هي مما هيأه لما قام به من عمل وما وجهه إليه دون أن يكون واعيا به تمام الوعي، من حيث إن المرء لا يملك أن يكون شاهدا متفرجا وممثلا فاعلا فوق الخشبة. هي وقفة تمزج بين الشهادة مما رآه كاتب هذه السطور وشهد مولده وتطوره، بحكم العشرة المباشرة والمعاصرة، وبين ما يقدر أنه كان خفيا مضمرا تقتضي مقدمات القول في مشروع الجابري الفكري نقله إلى محيط الجلاء ومجال التصريح. وحيث إن عناصر عديدة تتلاقح وتتفاعل لتسلمنا إلى معرفة الجابري الأستاذ الجامعي والمفكر، وإذ لا يتسع المجال للقول في جميعها، فإنني أنتقي منها عنصرا أجد أنه أقوى العناصر الفاعلة في تشكيل وعي الجابري واختياراته منذ مرحلة مبكرة من شبابه. ينتمي محمد عابد الجابري إلى الحركة الوطنية المغربية، وانتماؤه هذا يرجع إلى شبابه الأول، بل هو كذلك على نحو غير واع منذ طفولته على النحو الذي يبسطه في «حفريات في الذاكرة»، في مراحل من سيرته الذاتية. هذا الانتماء أو بالأحرى، تلك التلمذة، خلقت لدى الجابري الشاب، مثلما كونت لدى أبناء جيله جميعا، وعيا حادا برفض الاستعمار، والثورة في وجه الأسباب التي جعلت استعمار المغرب ممكنا: تفشي الخرافة، وانتشار الأمية، وهيمنة العلاقات القروسطية التي تجد لاستغلال الدين من أجل خدمة أغراض عنه طريقا ووسائل عديدة. والجابري، في كتاباته عن «المغرب المعاصر» وفي استرجاعه لذكريات الحركة الوطنية المغربية ورموزها كان لا يخفي إعجابا شديدا بالحركة السلفية وأطروحاتها وجوانبها التنويرية، ومن ثم الحديث عن «المضمون الليبرالي للحركة السلفية». هذا النوع من الإدراك للسلفية المغربية (ممثلة في الفقيه محمد بن العربي العلوي وفي تلميذه من بعده، علال الفاسي) أحدث عنده ميلا تلقائيا مبكرا إلى حب العقلانية والإعجاب بكل المفكرين الذين يعلون من قيم الحداثة والتنوير، في الوقت الذي يرفض فيه النزعات التغريبية المحضة.. يرفض الموقف الذي يدعو إلى الإلقاء بالتراث العربي الإسلامي في سلة المهملات أو في قمامة التاريخ، لأن هذا الموقف الأخير يعني، من جهة أولى، السقوط في شرك نزعة مركزية أوروبية Européocentrisme، ويعني من جهة ثانية معانقة ما يسميه «السلفية الاستشراقية»، أي تلك التي تسوي في النظر إلى الثقافة العربية الإسلامية بين تراث الأمة وكل الثقافات الأخرى. مثلما يرفض الموقف الآخر، المعارض للموقف الأول في ظاهره والمناقض له من حيث توجهه الآيديولوجي.. الموقف الذي يأخذ به الفكر اليساري العربي، والشق الماركسي منه خاصة. العيب في هذا الموقف، كما أخذ يعتمل في فكر الجابري أول عهده بالدرس والطلب وكما يتبلور لاحقا حين الاطلاع (دون أن يعلن ذلك صراحة) لاحقا على الأطروحات التي افتتن بها اليسار العربي في مطلع سبعينات القرن الماضي افتتانا. تعلم الجابري من درس الحركة الوطنية المغربية التقدير الواعي للتراث العربي الإسلامي وفعله العميق في الوعي العربي، ضد ما تروجه الأطروحات الاستعمارية، مثلما تعلم منه التعلق بقيم الحداثة، والعقلانية، والتنوير.