أسامة بن لادن: الظاهرة والانقضاء والمرحلة الجديدة

TT

قال الرئيس أوباما إن العدالة تحققت بمقتل أسامة بن لادن، ثأرا وانتقاما لمقتل الآلاف من الأميركيين، والآلاف من غيرهم بقيادته وتنفيذ تنظيمه. وأجابه الإيرانيون وأجابته حماس من غزة على الفور: ما دامت العدالة قد تحققت، فليخرج الأميركيون من العراق ومن أفغانستان، وهما البلدان اللذان احتلهما بوش وعساكره بذريعة بن لادن وأفعاله!

إن الأمور ليست بالبساطة التي يتحدث بها وعنها الأميركيون المنتصرون، ولا بالبساطة التي يتحدث بها وعنها الإسلاميون العرب وغير العرب. فالأميركيون ما جاءوا لغزو العراق لإخراج بن لادن أو قتله، والإسلاميون العرب والإيرانيون والباكستانيون والأفغان.. إلخ.. ما تصادموا مع الأميركيين ومع الأنظمة العربية والإسلامية، بسبب بشاشتها مع الغزاة.. بل هي مرحلة مأساوية في حياة العرب والمسلمين اختلط فيها الحابل بالنابل بالدم، وطالت إلى عقود ثلاثة أو أربعة - ومقتل بن لادن رمز لانتهائها وانقضائها، ليس بفعل الأميركيين، وإنما بفعل الثورات العربية، والشعوب العربية.

ما جاء الخطاب الجهادي للجماعات الإسلامية الجديدة في الستينات (والذي تحول في السبعينات إلى تمردات وأعمال عنف) مصادفة أو تحكما رغم عبثية الظاهرة المستشرية، وانتحاريته الموصوفة والموصومة. فرغم الأغلفة السميكة والشفافة لصرخات مقاتلة الكفار والمشركين والطواغيت وصولا إلى كسر رأس الكفر العالمي (الولايات المتحدة)؛ فإنها كانت تعبر عن مشكلات حقيقية في الواقع العربي والإسلامي، سبق أن تمرد من أجلها قوميون تقدميون أو يساريون، وما استطاعوا الوصول إلى تحقيق إنجاز في شأنها، تماما كما حصل مع الإسلاميين، بعد عقدين من الزمان. وكما هو شأن الآيديولوجيا، التي يعتبرها كارل ماركس تزييفا للواقع، كما يعتبرها كارل مانهايم تحويرا ملتويا له؛ فإن «الطليعة الثورية» من الماركسيين الجدد أرادت بانتحارياتها ضرب الرجعيات العربية، ومطامع البورجوازية الصغيرة (الحكومات العسكرية)، من أجل التمكن من التصدي للإمبريالية والصهيونية الاستيطانية.

أما إسلاميو الستينات (في مصر ثم في سورية) فقد تحدثوا عن الجاهلية التي تسود العالم، وأنها أخبث من الجاهلية الأولى، وأنها غربية يهودية، وأنها تسللت إلى ديار العرب والمسلمين، وسيطرت على مثقفيهم الحداثيين، ثم على حكامهم الثوريين. وفي السبعينات بدأوا يوردون الحجج على مشروعية الجهاد بالخارج أو مع الخارج، ثم بالداخل ضد الحكام، وأحيانا ضد «غفلة الناس» أو على الأقل الحداثيين والتقدميين. وما إن خمدت هجمات اليساريين بعض الشيء، حتى بدأت التمردات الإسلامية لمكافحة الجاهلية وممثليها في الغرب والعالم والداخل العربي والإسلامي. وكما في كل الظواهر الراديكالية؛ فإن التنظير حصل بمصر، والتنفيذ بدأ بمصر، ثم انتشر في سائر الديار العربية فالإسلامية: من تمرد الفنية العسكرية، وإلى التكفير والهجرة، فقتل الرئيس السادات؛ في الوقت الذي كان يحدث فيه التمرد المسلح من جانب الإخوان المسلمين في سوريا.

ما هي الأسباب الدافعة وراء التنظير، فالتنظيم، فالحركة الماردة؟ هناك سببان ظاهران وواضحان: عجز الأنظمة السياسية وفسادها، وضياع المصالح الوطنية والقومية والإسلامية نتيجة العجز والفساد والاستبداد.. واستشراء الهجمة الصهيونية والأميركية على ديار العرب والمسلمين، في فلسطين أولا، ثم في سائر النواحي، وأحيانا تحت غطاء التصارع بين القطبين في الحرب الباردة، وأحيانا أخرى من دون غطاء وإنما من أجل السطوة والهيمنة، كما حصل في العقدين الأخيرين. أما عجز الأنظمة وفسادها فقد عبر عنه اليساريون بالرجعية، وتذبذب البورجوازية الصغيرة. كما عبر عنه الإسلاميون بالفساد في الأرض والكفر والطاغوت. وقد أمكن صرف الجهاديين عن مصارعة الأنظمة وإسرائيل والأميركيين في الثمانينات من القرن الماضي، عن طريق استنفارهم ضد التدخل السوفياتي في أفغانستان، لكنهم بعد خروج السوفيات ثم انهيارهم، عادوا لفكرة مصارعة «رأس الكفر العالمي» أي الولايات المتحدة.

ودخل الموقف عامل جديد هو حصول تمرد داخل السلفية السعودية واليمنية والخليجية. فقد كانت حتى حرب تحرير الكويت (1990 - 1991) شديدة الامتثالية في الشأن السياسي والعام. ثم أمكن كسب بعض شبانها لمحاربة السوفيات في أفغانستان، و«هناك التأم شملهم مع حركة الجهاد المصرية، فأثّروا وتأثّروا. تأثروا بالنفس الجهادي للمصريين الذين كانوا قد نظّروا له ومارسوه بمصر. وأثروا في الانصراف مؤقتا عن «مجاهدة الداخل» (لأن السلفيين لم يألفوا ذلك بداية) إلى ضرب رأس الكفر. والقصة بعد ذلك معروفة، فقد نشرت القاعدة وتنظيماتها الفرعية، والمجموعات الصغيرة المتأثرة بها، العنف المسلح باسم الإسلام في مسارح العالم كُلِّه، والذي بلغ ذروته الظافرة ظاهرا بغزوة نيويورك (2001)، مرتدا إلى الديار الأصلية، وناشرا الرعب والدمار فيها، مما لم يبلغه الجيش الأحمر متلازمة معه (وليست ناجمة عنه) الحرب العالمية على الإرهاب، والتي نشرت خلالها الولايات المتحدة قواتها على طول العالم العربي والإسلامي وعرضه. وبذلك فقد خَرِب بلدان عربيان إسلاميان (أفغانستان والعراق)، وسقط الملايين أو هُجّروا (في تقاطعات مصالح بين «القاعدة» والولايات المتحدة وإيران)، وصعدت دواعي الفتنة وممارساتها بين الشيعة والسنة في العراق وباكستان ولبنان والبحرين - وقويت الأنظمة العربية والإسلامية التي كان يراد هدمها، لأن الأنظمة والأميركيين والأوروبيين توصلوا إلى قناعة مشتركة مؤداها أن البديل سوف يأتي من الإسلاميين المتطرفين أو الموالين لإيران!

ماذا أنجزت «قاعدة الجهاد» من الهدفين اللذين أرادت تحقيقهما، وهما كسر شوكة الإمبريالية (والصهيونية)، وضرب أنظمة الطاغوت والجاهلية في العالمين العربي والإسلامي؟ ما أنجزت شيئا باتجاه هذين الهدفين، وتحققت للإمبريالية وللأنظمة ديمومة في «الشرق الأوسط الجديد»، زادت على العقدين من السنين.

- لقد خسر الإسلام من صورته الكثير في المجال العالمي، ليس لدى الغربيين فقط؛ بل لدى الآسيويين الكبار، ولدى روسيا، أيضا، وفي الشراكة التي كان يسعى إليها شيوخه ومثقفوه مع المسيحية العالمية. فحتى عندما كانت القضايا مشروعة؛ فإن طرائق حملها والدفاع عنها ما كانت مألوفة.

- وخسر العرب والمسلمون مئات ألوف الضحايا في الصراع الدائر بين الأميركيين و«القاعدة». كما خسر العرب والمسلمون المتوطّنون بالغرب الرأْي العام هناك لسنوات طويلة قادمة.

- وبسبب الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه تخثر الأنظمة، والهجمة الأميركية، والتدخلات الإيرانية للموازنة ونشر مناطق النفوذ، فقد تشرذمت مجتمعات وفشلت دول، وازداد العالم العربي ضعفا وغربة واغترابا؛ بحيث غاب الجمهور العربي، وحضر العالم كله إلى شوارعنا ما عدانا، وظل التعملق الإسرائيلي شاهدا على استضعافنا وفشلنا!

ولست أقصد أن كل الذي حصل لنا - وهو هائل ومأساوي - كان ولا يزال من «إنجازات القاعدة» أو بسبب خسارتها لمعاركها وحروبها. بل إن ما قصدته أن «القاعدة» خسّرتنا أحيانا بشكل مباشر كما في غزوة نيويورك وغزوات أوروبا وآسيا، والتوطن بأفغانستان وباكستان - وخسرتنا أحيانا بشكل غير مباشر (بل ثقافي وسياسي واستراتيجي)، حين سهلت على الولايات المتحدة، وعلى كل الآخرين عمليات غزونا وقتلنا وتخريب بلداننا تارة بحجة مكافحة الإرهاب، وطورا بحجة العجز وعدم الكفاءة، وطورا ثالثا من دون حجة ولا غطاء إلا المكابرة والاحتقار، ومفارقتنا للمثالات الإنسانية والديمقراطية للعالم المعاصر. إذ ما طمعت بنا الولايات المتحدة وروسيا والأوروبيون والصينيون والهنود والإيرانيون والأتراك فحسب؛ بل إن أسياس أفورقي رئيس إريتريا، قال في مؤتمر العلاقات العربية - الأفريقية بسرت بعد القمة العربية هناك: «أنا متعجب من بقاء دولكم ومجتمعاتكم أنتم العرب، وبخاصة أنكم لا تنتجون غير الإرهاب والعنف والأنظمة الفاشلة! بل إن بوش ومحافظيه القدامى / الجدد أقبلوا على شن «حرب أفكار» علينا تارة لتصحيح الإسلام ودمقرطته، وطورا لاستعادة الإسلام من «القاعدة» التي خطفته!

كل ذلك انتهى الآن، أو أنه في طريقه للانتهاء، ومقتل بن لادن المأساوي إشارة أخرى إلى نهايات حقبة قاسية وكارثية في حياة أمتنا ومجتمعاتنا ودولها. ما أنهاها مقتل بن لادن، ولا الانتصار الأميركي في «إحقاق العدالة»! بل أنهتها الجماهير العربية حين نزلت إلى شوارع مدنها وبلداتها وقراها لتحقيق الحرية والكرامة والأمن والعيش العزيز والمنعة الوطنية.