كيف تصبح نظاما غير فاشل؟

TT

منذ توليهم السلطة في دمشق عام 1963، أمر البعثيون السوريين بالتخلي عن حريات أساسية وقبول صعوبات مادية حتى يستطيع الجيش السوري تحقيق النصر على «العدو الصهيوني».

لكن ما حدث هو شيء مختلف تماما، حيث عانت سوريا من نكسات كبيرة، واحتلت إسرائيل أرضا سورية. وبدلا من محاربة إسرائيل، حاولت سوريا ضم لبنان لمصلحة الزمرة الحاكمة. وكان تكلفة الانتصار البعيد المنال الذي وعد به البعثيون كبيرة للغاية، فمنذ الستينات من القرن الماضي، يتم تخصيص نحو 25 في المائة من الميزانية السورية السنوية للجيش، وهو ما يصل إلى 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تنفقه الولايات المتحدة، وستة أضعاف متوسط ما تنفقه دول الاتحاد الأوروبي على الدفاع. ومن حيث القيمة الحقيقية، يعادل إنفاق سوريا على المجال العسكري أربعة أضعاف ما تنفقه على الصحة أو التعليم.

وربما يتساءل السوريون عن مصارف كل هذه النفقات، وجاءت إحدى الإجابات عن هذه التساؤلات عام 1982، عندما تم إرسال الجيش إلى مدينة حماة لعدة أيام للقيام بالمجزرة التي راح ضحيتها الكثيرون (تتراوح التقديرات من 10.000 إلى 40.000 سوري).

ويعد النظام السوري نموذجا للأنظمة العسكرية والأمنية التي كانت موجودة في أوروبا خلال القرن الماضي، مثل نظام موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا، وإلى حد ما في وقت لاحق، فرانكو في إسبانيا. وفي الثلاثينات من القرن الماضي، عاشت رومانيا والمجر تحت وطأة أنظمة من هذه النوعية.

وفي الأربعينات، انتقل هذا النموذج إلى أميركا اللاتينية، وكان أفضل مثال على ذلك هو نظام خوان بيرون في الأرجنتين.

وشهدت الخمسينيات انتشار هذا النموذج العسكري والأمني، مع بعض التعديلات الطفيفة، في الكثير من بلدان «العالم النامي». ومع ازدياد حدة الحرب الباردة، وصف استراتيجيون أميركيون هذا النموذج بـ«القوة الثالثة»، وهو نظام بين الرأسمالية والشيوعية، وقاموا بتصديره إلى آسيا وأفريقيا كجزء من خططهم للحد من النفوذ السوفياتي والصيني. ونظم الرئيس جون كنيدي انقلابا عسكريا في فيتنام الجنوبية ليكون بمثابة أول تدخل من قبل الولايات المتحدة في الدول الأخرى.

وتم فرض هذا النموذج العسكري والأمني في مصر من قبل «الضباط الأحرار» في عام 1952، ثم انتقل بعد ذلك إلى المحيط العربي. وعلى مر السنين، سارت السودان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال على الدرب نفسه. ورأت الولايات المتحدة في جمال عبد الناصر الزعيم القادر على سحق اليسار وكبح جماح الجماعات الدينية.

ومع ذلك، أثبت النموذج العسكري والأمني فشلا ذريعا في جميع الحالات، فبدد نظام عبد الناصر موارد البلاد الشحيحة على الأسلحة غير المجدية في نهاية المطاف، وقاد البلاد إلى حروب كارثية مع إسرائيل.

وفي السودان، أثارت الأنظمة العسكرية والأمنية المتعاقبة حروبا أهلية استمرت حتى يومنا هذا، كما هو الحال في دارفور، واليوم، يجري تقسيم السودان إلى دولتين.

ولا يختلف الحال في العراق عن سابقيه، حيث عانى من أربعة عقود من الحروب الأهلية والخارجية والقمع الوحشي، انتهاء بالاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة والفوضى التي أعقبت ذلك. وفي اليمن، أدى هذا النموذج إلى حرب أهلية بدأت بالظلم والقمع وانتهت بالفوضى الحالية. وتم تقسيم ليبيا إلى طائفتين متناحرتين، في حين يستخدم «المرشد الأعلى» ما تبقى من جيشه لقتل شعبه. وأصبحت الصومال دولة فاشلة بعد سنوات الحكم العسكري والأمني تحت قيادة سياد بري. وأظهرت التجربة التونسية أن النجاح الاقتصادي النسبي لا يمكنه ضمان بقاء الأنظمة العسكرية والأمنية إلى الأبد.

وإذا ما نظرنا سريعا إلى ما يسمى اليوم بـ«البلدان النامية» سيتضح لنا أن عهد الأنظمة العسكرية والأمنية قد ولى. وباستثناء الدول الشيوعية الأربع المتبقية - الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا - نجد أن من بين أعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم 198 لا تزال ست دول فقط تعيش في ظل الأنظمة العسكرية والأمنية الكلاسيكية، منها أربع دول عربية وهي ليبيا والسودان وسوريا واليمن، بالإضافة إلى إريتريا، التي تعد دولة عربية من الناحية النظرية، وبورما.

والسؤال الآن هو: كيف ستنتهي الأنظمة العسكرية والأمنية؟!.. وليس هل ستنتهي هذه الأنظمة أم لا؟

في عدد من الحالات، يسمح هذا النوع من الأنظمة لنفسه بأن يتحول تدريجيا إلى نظام تعددي مع خضوع الأجهزة العسكرية والأمنية للسلطة المدنية، وهذا هو ما حدث في كوريا الجنوبية وتايوان واليونان والبرتغال وإسبانيا وتشيلي والأرجنتين وباراغواي والبرازيل وغيرها، ومن بين الدول الإسلامية كانت بنغلاديش وإندونيسيا أهم مثالين على هذا النموذج.

ويبدو أن تونس قد اختارت هذه الاستراتيجية، حيث سمحت النخبة العسكرية والأمنية للنظام بأن يتحول إلى نظام تعددي على النمط الغربي.

وفي حالات أخرى، احتفظت الأجهزة العسكرية والأمنية بدور رئيسي من دون الإصرار على التحكم في مقاليد الأمور بشكل حصري، وتعد كمبوديا وباكستان وتركيا أفضل مثال على ذلك. والآن، تضع النخبة العسكرية والأمنية في مصر جذور هذا الخيار.

وفي حالات قليلة للغاية، اختار النظام العسكري والأمني خيار «شمشون»، من خلال السعي لتدمير البلد على أمل يائس لتجنب زواله هو، ويظل نظام صدام حسين في العراق المثال الأكثر مأساوية على ذلك، في حين أن نظام عيدي أمين في أوغندا هو الأكثر هزلية. ومن الأمثلة الأخرى أنظمة الخمير الحمر في كمبوديا، وغالتيري في الأرجنتين.

اختار نظام القذافي الأبتر خيار «شمشون» الانتحاري، ويتضح ذلك من خلال تصريحاته التي تقشعر لها الأبدان عندما قال «من دوني لن تكون هناك ليبيا». وفي اليمن، غازل علي عبد الله صالح هذه الفكرة في البداية. ومع ذلك، لا يزال صالح الذي يعد أكثر ذكاء وربما أقل تشاؤما من القذافي، لديه فرصة للخروج بشكل منظم، وإن لم يكن بشكل كريم.

وفي السودان، يحاول جزء من النظام أن يجد مخرجا، ربما من خلال التخلص من الرئيس السوداني عمر البشير الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

ودائما ما يكون خيار «شمشون» جذابا للطغاة، وكان شعار «أنا والطوفان من بعدي» شعار كثير منهم. لكن ماذا عن سوريا التي تعد الموضوع الرئيسي لهذا المقال؟ الإجابة هي أنه قد تم احتلال درعا بدلا من تحرير الجولان، وهو الشيء الذي لا يمكن أن يكون مبعث فخر للنظام السوري.

وعلى الرغم من المذابح الحالية، فإن الجماعة الحاكمة لا تبدو متحدة إلى حد كبير لدعم سياسة الانتحار في نهاية المطاف، وقد يكون جزء من النظام (ربما مدعوما من قبل قطاعات من الجيش) مهتما بتجارب البلدان التي تمكنت من الانتقال المنظم إلى نظام قائم على حكم القانون. لكن ليس كل السوريين متحمسون لتقليد عيدي أمين وصدام حسين ومعمر القذافي.