كردستان.. بين تعنت المعارضة وتجاهل السلطة

TT

كردستان كانت المثال الأروع للديمقراطية في العراق، وكان الإقليم من الناحية الأمنية مشادّا به، بل قد أصبح مثالا يحتذى به في الأوساط العراقية والإقليمية، وحتى الدولية أيضا. لكن لم يدم هذا المثال، ولم تعد الأنفاس السياسية، ومروناتها السابقة، على حالها، بل تصاعدت وانعطفت نحو تقليد بعض الأنظمة الشمولية فيما يخص بمعالجة الغليان الجماهيري في شوارعها.

كان لأحداث 17 فبراير (شباط) في مدينة السليمانية أثر بالغ لإظهار النيات الحقيقية نحو تغيير الحال السياسي، أو المحافظة عليه، حتى بلوغ بر أكثر أمانا. لكن الدماء التي هدرت في شوارع مدينة السليمانية، والطرق المستفزة، وانحراف بعض المتظاهرين نحو التعبير عن غضبهم بالحجارة والتهجّم، غيّرت الآفاق، بل حتّى السياسات التي قد رُسمت لها، بهدف إحداث تغيير جوهري على الحالة السياسية وطرقها المستمدة منذ الانتفاضة الجماهيرية (1991). فلم تأبه القيادة في السلطة السياسية في إقليم كردستان لواقع أن هناك موجة غضب ممتدة في الشرق الأوسط، ولم تقرأ الحالة الاجتماعية، وخاصة جانبها النفسي في الإيحاء والتلقين والتقليد، ولم تعترف القيادة بأن نشوب حالات التظاهر والاضطرابات في البيئات المجاورة بالسخونة التي تكتسب من خلال الإيحاء والتلقين، بل اتّجهت القيادة، وبتحليلاتها التقليدية، ومركزية العقل السياسي، إلى إثارة الشكوك بأن هناك إيادي أجنبية تفتعل غضب الشارع الكردي. واتجهت المعارضة إلى ميدان التجمع في (سراي السليمانية) واعتنقت هذا الغضب ووظّفته في إطار مشروع تغيير النظام السياسي الشامل.

بهذا تحول الدّاعون للإصلاح من قلب الشارع في السليمانية، الذين جمعهم الغضب العشوائي، إلى سلاح بيد المعارضة، وظلت المعارضة توظف، وبشكل منظّم ومبرمج، تخطيطاتها السياسية، وتجعل نداء الشارع، نداء من المعارضة، النداء الذي يهدف إلى حل الحكومة، انتقاما وربما ليس إصلاحا للسلطة! وهكذا ظهرت معالم فرض الإرادات السياسية، وغضب المعارضة المحتقن منذ سنين، تجاه السلطة في كردستان، حتّى وصل إلى حالة التعنت السياسي، بل وصل إلى الحراك من أجل لي الذراع.

كان الشارع في السليمانية قد اكتسب العديد من القرارات، بل تنازلات هامة من قبل السلطة، وخاصة قرار البرلمان الكردستاني، واستجواب رئيس حكومة الإقليم، بل وحتّى القبول بانتخابات مسبقة من قبل رئيس الإقليم، والكثير من النقاط الهامة الأخرى منها إصدار مذكّرات اعتقال بحق المتهمين بقتل المتظاهرين، وما إلى ذلك من إجراءات.

لكن استمرارية التعنت، والتمرد على قانون تنظيم المظاهرات (رغم الملاحظات على مواده والمرفوض من قبل المعارضة)، وتغيير نبرة المعارضة ورفع سقف المطالب السياسية، من جانب، وتعنت سلطة الحزبين الحاكمين (الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني) تجاه هذه المطالب من جانب آخر، وأيضا ذوبان إرادة المواطن المتظاهر في الأجندة السياسية للمعارضة، جعلت الأجواء في كردستان تتدهور نحو التصلب ونحو معالجة حالة التظاهر وحق المواطن لممارستها بطرق شرسة، بل ومشمئزة في بعض الأحيان، وأن تؤدي إلى نسيان المطالب الأساسية، حيث باتت إعادة الأمن والأمان والعودة إلى طاولة الحوار المباشر بين المعارضة والسلطة من الأمور والمطالب الأساسية والآنية للجانبين، بينما كان النقاش في الشهر الأول من المظاهرات يدور حول وضع جدول زمني لإحداث تغييرات جوهرية في حقيبة برهم صالح ووضع سقف زمني آخر لتقديم الانتخابات البرلمانية ومحاولة إحالة بعض الوزارات إلى التكنوقراط والمهنيين وذوي الخبرات.

ومن زاوية أخرى، وإذا ما أمعنّا النظر في التغييرات السياسية المتسارعة بالمنطقة، نرى أن النهج السياسي المتبع من قبل الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان، يحتاج إلى إعادة النظر، حيث بات لا يواكب تطلعات الشارع، كون ملفات الفساد الإداري المهملة، وانعدام أهداف قومية بعيدة المدى، والعجز عن حل ملف المناطق المستقطعة، وانعدام الإرادة الحزبية أو السياسية لدمج قوات حرس الإقليم والأمن والمالية بين منطقتي النفوذ في السليمانية وأربيل، يجعل الأداء الإداري وموقف كتلتي التحالف الكردستاني في البرلمانين العراقي والكردستاني وموقف الكرد بشكل عام ضعيفا، ويؤدي أيضا إلى الانقسام الاجتماعي الذي سيؤثر عاجلا أم آجلا في جماهير الحزبين.

أما المعارضة فيبدو أنها ربما أغفلت هذه المرة سياسة الأمن القومي، فغيّرت ثِقلها وضغطها على الداخل في وقت كانت تستطيع أن تفتعل قضية المناطق المستقطعة وأن توظفها كجزء من الإهمال من قبل السلطة. وكان لدى المعارضة الوقت الكافي، بل وحتّى التنازلات الكافية من قبل الحزبين، للمرحلة الراهنة، لكن تبدو المعارضة ضاءلت من وميضها، حيث ركزت على المرونة المتبعة من قبل السليمانية ولم تجرؤ أن تواجه مركزية وصرامة أربيل في معالجاتها السياسية.

* كاتب كردي