مكافحة الإرهاب لا تكون بـ«الأفلام الهوليوودية» الممنتجة بالاستفزاز

TT

لنستحضر - بعقلانية عصيّة عن التأثر بالهيجان العاطفي السائد - الإطار النفسي والسياسي والزمني للفيلم الهوليوودي الأميركي «أميركا قتلت بن لادن».. ففي هذا الإطار ذي الأبعاد الثلاثية المركبة واجه باراك أوباما ما يلي: واجه اتهام خصومه له بالضعف والتردد والليونة المعيبة في موقفه من أحداث ليبيا في بادئ الأمر - مثلا - وواجه في أثناء تدشين حملته الانتخابية الرئاسية لولاية ثانية انخفاضا خطرا في شعبيته.. فهل لهذه العوامل - وهي أمثال فحسب - أثر في اتخاذ القرار بتنفيذ تلك العملية؟ من يقرأ سير الرؤساء الأميركيين وحملاتهم الانتخابية: يتوكد من أن «كل شيء» يمكن أن يوظف في مباراة السباق إلى البيت الأبيض: للولاية الأولى أو الثانية.. ثم هل حقْن عملية القتل: بحزمة من الخطايا والحماقات ذو صلة بقرار لا يخلو من اضطراب؟.. وها هنا يتبدى السؤال البدهي: وما هي تلك الخطايا والحماقات؟.. هي كثيرة جدا، نذكر جملة منها، مع إفساح مجال عريض لمثلها وأكثر منها سيظهر في المستقبل.. من هذه الخطايا والحماقات: خطيئة انتهاك سيادة باكستان، وهو انتهاك سيصيب الشعب الباكستاني بغليان لا سقف لمعدلاته التصاعدية. وهذا الغليان إنما هو - بلا ريب - مناخ جديد يتولد فيه إرهاب جديد.. وخطيئة «القتل بدل الاعتقال».. فالرجل لم يكن مسلحا (باعترافهم هم)، بدليل أنهم استطاعوا اعتقاله في البداية. ولكن بعد الاعتقال أعدموه ثم سحبوه.. ومسألة الاعتقال هي «واجب قانوني» في المقام الأول، بمعنى أنه كان يتوجب: أن يقدم لمحاكمة قضائية عادلة (وهو شعار تطالب أميركا العالم كله بالتزامه)، بيد أن أميركا أخذت القانون بيدها، وطبقته بقوتها ثم هتفت «لقد حققنا العدالة»!.. وخطيئة تشويه الجثة.. وهذا غريب أيضا. فالإنسان المستسلم تكفي رصاصة واحدة في رأسه ليموت.. والرصاصة الواحدة القاتلة لا تشوه الجثة.. وخطيئة رمي الجثة في البحر (بحر العرب).. ولا ندري: أي خيال أميركي تفتق عن هذه الطريقة التي ليس لها سند في الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهي طريقة أثارت غضب المسلمين وهو غضب عبر عنه مسلمون كثر منهم شيخ الأزهر.. لقد دسّ جورج بوش الابن «التوتر الديني» في أجندته لمكافحة الإرهاب من خلال عبارات فاحت منها رائحة الصليبية، فهل قلده أوباما في هذا النهج عبر تصرف غريب تمثل في طريقة دفن الموتى بإلقائهم في البحر، وهو تصرف يكهرب التوتر الديني أيضا (في ظل التوترات الدينية ترتفع نسب الاستعداد للتطرف والعنف).

نحن نريد أن يتحد عقلاء العالم وأسوياؤه ومحبو الأمن والسلام فيه، في «جبهة عالمية واحدة» صلبة ضد الإرهاب بهدف تخليص العالم من جرائمه وشروره، لكن يبدو أن الذين يزعمون أنهم قادة هذه الجبهة يخدمون - بمسالكهم وتصرفاتهم - هذا الإرهاب الخسيس المجنون: يخدمونه بـ«التفلت» من ضوابط القانون الدولي. ذلك أنه من أقوى الحجج ضد الإرهاب: حجة أنه لا يقيم وزنا للقانون الدولي، فهو يبطش وكأنه في كوكب بلا نظام ولا قانون.. هذه الحجة الغالبة ضد الإرهاب أضعفتها تصرفات غير مسؤولة باشرها الأميركان غير مرة حيث لم تقم هذه التصرفات للقانون الدولي وزنا.. ومما لا ريب فيه: أن الاستخفاف بالقانون الدولي من قِبَل مكافحي الإرهاب إنما هو خدمة عظيمة للإرهاب ومقترفيه.. ومكافحو الإرهاب يخدمونه بالإسناد الباطل المطلق لإرهاب آخر «مسكوت عنه» وهو الإرهاب الصهيوني.. فالمصدر الرئيسي لكراهية الغرب - ولا سيما أميركا - في العالم الإسلامي هو مناصرتهم المطلقة للاحتلال الصهيوني.. وما لم يزل هذا الغبن، فإن الكراهية ستظل مستمرة، وهي كراهية يستغلها الإرهابيون في تجنيد الناقمين في صفوفهم.

وبمناسبة خدمة مكافحي الإرهاب للإرهاب، يبدو الأمر وكأن هناك «تبادل خدمات» بين الطرفين، أي إن الإرهابيين يقدمون خدمات جليلة لمن يزعمون أنهم أعداؤهم وهدف جهادهم.. مثلا: كانت الإدارة الأميركية عام 2002 محتاجة إلى مزيد من المناخ الذي يمكنها من إصدار قوانين جديدة تجعل «ضرورات الأمن» فوق اعتبار الحريات العامة، والخصوصيات الشخصية.. وهذه خطوات لا تتم بسهولة في مجتمع مثل أميركا «يقدس» الحريات العامة. وبينما كان الجدل ملتهبا حول هذه القضية: طلع متحدث باسم «القاعدة» ليقول - في حسم - : «إن عواصف من الطائرات ستضرب أميركا من جديد، ولذلك نحذر المسلمين ونطلب منهم ألا يسكنوا في بنايات عالية هي هدف رجالنا الذين يقودون طائرات الانقضاض والتدمير».. وقد علم الناس أن شيئا من هذه التهديدات لم يقع، ولكن القوانين المطلوبة سُنت!!.. ومن نقصان العقل تصور أن هذه القوانين مسبّبة - فحسب - بالخطاب الإرهابي التهديدي الذي حاول أن يستدير بالزمن كهيئته يوم وقعت أحداث 11 سبتمبر النكدة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا الخطاب كان مناسبة ممتعة، خدمت الذين يكافحون الإرهاب ((!!!!)) وأعانتهم على استعجال صدور القوانين بطريقة أيسر وأسرع.. وفي هذا السياق نفسه نثبت الواقعة الآتية: ما بين 11 سبتمبر وبدايات قصف أفغانستان، كان العالم كله بما في ذلك أوروبا يتحدث باستفاضة ناقدة عن ضعف الأدلة الأميركية وقلتها في تسويغ الحرب. وقد وقعت أميركا في حرج شديد.. في هذا الظرف البالغ الحرج جاءها الفرج الكبير متمثلا في خطاب أذاعه زعيم «القاعدة» قبل شن الحرب بساعات معدودة. وفحوى الخطاب اعتراف صريح بتدبير العمليات الإرهابية ضد أميركا.. هنالك وجدت أميركا أقوى دليل لشن الحرب، وهو دليل أقنعت به حلفاءها من ثم!!.

ومهما يكن من أمر، فإننا نجدّد العهد والميثاق والعزم على مكافحة الإرهاب - فكرا وسلوكا -.. ومرجعيتنا في ذلك ليس أدبيات الاستخبارات الأميركية (المتهمة هي ذاتها بصناعة الإرهاب واللعب مع الإرهابيين: بن لادن وغيره).. وإنما مرجعيتنا هي منهج الإسلام الذي ينقض العنف كله ويجرمه تجريما مطلقا: من العنف في الكلمة والنظرة إلى العنف الدامي.. ولقد اجتلينا هذا المنهج وطالبنا بإعماله في كتابنا «الأدمغة المفخخة».

في الوقت نفسه: نبشر بخيبة عالمية موكدة في مكافحة الإرهاب في حالة زوغان الأسرة الدولية - عمدا أو غفلة - عن القاعدتين الأصليتين الفاعلتين في مكافحة الإرهاب:

1) قاعدة إعادة «تعريف الإرهاب» في صيغة دولية: قانونية أخلاقية سياسية دقيقة ومضبوطة، تحدد العدو المستهدف بوضوح لئلا تكون المعركة ضد أشباح، وتمنع كل أحد - ولا سيما أميركا وإسرائيل - من تفسير الإرهاب على هواه. فعدم الدقة في التعريف (وهذه إرادة أميركية صهيونية) هيأ الفرصة للانحراف الكبير بالحرب على الإرهاب. وهو انحراف أدى إلى فشل هذه الحرب، بل أدى إلى تصعيد الإرهاب، واتساع نطاقه، على الرغم من الهدوء الظاهري الخادع أحيانا. وهنا نضم صوتنا إلى صوت منظمة المؤتمر الإسلامي في المطالبة بتنظيم مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب بطريقة علمية صحيحة.

2) قاعدة العكوف العلمي الموسع والعميق والموثق على أسباب الإرهاب في مكامنها ومظانها كافة.. ولو حصل هذا البحث الموضوعي من أول الأمر لأحرزت جهود مكافحة الإرهاب نجاحات كبيرة. بيد أن الصراحة والأمانة تقضيان بالجهر بتسمية من كان السبب في صرف الأنظار عن أسباب الإرهاب الجوهرية.. والحق أن أميركا وإسرائيل هما اللتان جاهدتا لأجل تجهيل العالم في الأسباب الحقيقية للإرهاب، ولكل سببه المريب. فأميركا تخشى هذا الأمر لأن سياستها الخارجية الحمقاء العمياء من أهم أسباب التطرف والإرهاب.. وإسرائيل تخشى ذلك لأن باطلها الذي قامت عليه، ولأن عدوانيتها وإرهابها - منذ قامت وإلى اليوم - ذلك كله يتسبب في نشوء الإرهاب ولو لم يكن موجودا أصلا.. ولا قيمة لقول من يقول: إن البحث عن الأسباب يتضمن إيجاد معاذير لهذا الوباء. ذلك أن البحث عن أسباب الجريمة والمرض لا يتضمن - قط - تسويغا لوجودهما، ولا تشجيعا لانتشارهما، ولا فتورا في مكافحتهما.