ليلة قتل بن لادن في مدينة جيمس أبوت

TT

يقتل بن لادن في الوقت الضائع، وعلى نهج بعض العرب بدأ كثيرون يبحثون في الطريقة التي تم بها القتل والدفن، وعملية المتابعة وأخلاقيات القتل، ثم تحول النقاش إلى الطريقة التي سوف ترد بها «القاعدة» على هذا القتل للثأر له، أو من سوف يخلف القائد، معظم النقاش كان خارج الموضوع.

سألت صديقا من باكستان ماذا يعني أبوت آباد، أعرف آباد، وتعني مدينة، ولكن ما هو أبوت، قال هو جيمس أبوت، ضابط في الجيش البريطاني، والذي أسس المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد ضم الإنجليز لمقاطعة البنجاب، تلك المنطقة في الأيام الخوالي تتسم بجوها الجميل، فسميت المدينة الصغيرة باسمه.

لقد تم القتل، والرمز الروحي رحل، والملاحقة الأميركية لابن لادن معروفة منذ زمن، وكان العالم يترقب توقيت القتل أو القبض، دون مبالاة بالطريقة التي سوف يقتل بها أو المكان الذي يفارق فيه الحياة، العالم كان يتأمل متى وليس كيف. أميركا صنعت بن لادن، وأميركا قتلت بن لادن. وما إطلاق التخويف من الثأر، إلا فزاعة أخرى. العجيب أنها فزاعة تستخدمها الأنظمة المتضادة، الولايات المتحدة والغرب من جهة، والأنظمة التي تهتز تحت ضربات الجماهير من جهة أخرى. مناحة من جهة وفرح من جهة أخرى، الأولى تبكي بطلا، إلا أن البكاء هو على العجز في التأثير، والثانية تقيم الاحتفال، إلا أنه احتفال بنصر وهمي.

«القاعدة» ليست تنظيما له تسلسل محكم، هي فكرة أطلقت تتوسل العنف المسلح، بعد أن تحول أصحابها من الجهاد الإغاثي، إلى الجهاد القتالي، فأصبحت كل مجموعة رافضة لواقعها، لأي سبب كان، على امتداد الأرض العربية، تدعي قربا بـ«القاعدة». جماعات لا رابط بينها غير الاسم. «القاعدة» هي وسيلة عنيفة لما يعتقد البعض الرافض أنه طريقة تغيير لواقع غير مقبول، ولا أكثر من ترويع الناس وقتلهم العشوائي طريقة للفت الأنظار. «القاعدة» تفتقد إلى نظرية سياسية، تقود البندقية العشوائية ورمانة القنبلة، وهكذا «نضال» لا أفق له، ليس هنا في الشرق الأوسط، بل في التاريخ الإنساني. تقوم الجماعات التي تدعي الانتماء تحت ذلك الاسم العريض «القاعدة» بأعمال لم تستطع التأثير السياسي إلا في محيط ضيق. ما استطاعت النجاح فيه هو تأليب العالم على دين سمح وعلى شعوب تريد أن تتعايش مع غيرها في هذا العالم الذي يصغر يوميا. سوف تتسارع فكرة «القاعدة» إلى الانهيار، ليس بسبب قتل القائد، بل وأيضا بسبب الثروة المعلوماتية التي وجدت في بيت القتيل.

حقيقة الأمر أن نظرية العنف القاعدية سقطت قبل ذلك، سقطت في اللحظة التي أحرق فيها البوعزيزي نفسه في تونس، لم يتلفت إلى اللجوء إلى العنوان السابق المعروف، المسمى بأسلوب «القاعدة»، ويشكل عصابة صغيرة تقوم ببعض العنف، تعبيرا عن الإحباط الذي يشعر به وأقرانه. أحرق نفسه فتداعت بعد ذلك الأمور حتى قادت إلى خروج الشعب التونسي أو أكثره إلى الساحات، ثم توالى الخروج إلى الساحات، في مصر واليمن وليبيا والعراق وسوريا، كل بما استطاع أن يحقق، وكل بالثمن الذي قدر أن يدفعه. شرارة البوعزيزي التي اكتشف الجماهير بعدها قوة تأثير النزول إلى الشارع مسالمين، حولت المحبطين العرب الكثر، الذين كان يمكن أن يكونوا وقودا لفكر وطريقة «القاعدة»، إلى بشر مسالمين يستطيعون أن يحققوا مطالبهم ويزيلوا الإحباط بطريقة أخرى أقل عنفا، على عكس الطريقة القاعدية التي شكل العنف غير المنضبط أول شروطها، وتمارسه دون هدف واضح.

ارتبطت الوسيلة المسالمة بهدف واضح، بعد أن كان العنف تقريبا بلا هدف غير الترويع، من هنا جاء القول بأن بن لادن قتل في الوقت الضائع، لأنه منذ اكتشاف النداء المسالم «الشعب يريد..» فقدت الدعوة القاعدية جاذبيتها لدى البعض، كما انصرف عنها آخرون مبكرا بعد أن تأكدوا من عبثية ما تطرحه وتقوم به، أعني هنا المجموعات التي عملت تحت اسمها وبطريقتها، وكلما تحقق إصلاح اقتصادي وسياسي على الأرض في البلاد العربية، قلت جاذبية طريق القاعدة في التعبير.

كثير من المحللين ربطوا نشأة وتطور «القاعدة» بالإحباط المحلي، وعندما تدرس هذه الفترة من التاريخ العربي سوف يجد المؤرخون، أن هناك عوامل كثيرة ومعقدة تداخلت في صناعة «القاعدة». منها الثورة الإيرانية، ومنها الحرب في أفغانستان، ومنها الاستغلال البشع للأفكار الدينية، ومنها الطموح الشخصي، ومنها الإحباط المحلي وانسداد أفق التطوير ومنها أيضا الفقر الشديد في التفكير السياسي الحديث ومنها أيضا استفادة القوى الكبرى من أعمال «القاعدة» التي حققت لها في وقت ما بعضا من استراتيجيتها. كل هذه الأسباب وغيرها سوف تظهر كعوامل ساعدت على ظهور «القاعدة» وفروعها المسماة باسمها دون اتصال.

منظرو «القاعدة» صبوا جام غضبهم على الولايات المتحدة، اعتقادا منهم أنها مصدر الشرور. تفكيرهم قريب إلى السذاجة، فضرب بعض المصالح هنا أو هناك، لن يجعل الولايات المتحدة ترضخ لما يريدونه، ثم إن ما يريدونه فيه من الخيال المنقطع عن واقع العالم فراسخ ضوئية، كان الداء في مكان والدواء الذي تصفه «القاعدة» في مكان آخر بعيد عنه.

مرة أخرى، بعد التطور السريع على الساحة العربية، لم يعد فكر بن لادن ولا طريقة حربه ضد الآخرين التي كانت عمياء في كل مسيرتها، تمثل جذبا للجمهور، حتى التشفي البدائي الذي صاحب بعض عمليات «القاعدة»، انتفى قطعيا وربما يضمحل في حال تطور الانتفاضات العربية إلى شيء ملموس على الأرض. القاعدة الصلبة هي ما سوف يحدث في مصر، ويبدو أن ما يحدث حتى الآن على الأقل يبشر بنتائج طيبة.

من يبقى على طرق «القاعدة» في العنف، لن يخرج عن مجموعة عصابات لا أكثر، ليس لها ولا تستطيع أن تحقق جمهورا يرضى بوسائلها، وسوف تبقى مطاردة، مثل أي عصابات أخرى تعرفها كل المجتمعات اليوم.

موت أسامة بن لادن وإعلان مقتله، كان الفصل الأخير لكتاب «القاعدة». الشباب العرب الذين كانوا قنبلة موقوتة تهابها الحكومات العربية خوفا من انضمامهم اليائس لتنظيمات إرهابية كـ«القاعدة» أصبحوا يرفضون الإرهاب بل خرجوا من جلبابه، وسلكوا طريق الثورة السلمية للتعبير والمطالبة بالحقوق وهي الأكثر حضارية وأنجع جدوى.

آخر الكلام:

قال لي صديق مصري يشتغل بالكتابة: كنا نخاف نقد النظام المصري السابق خوفا من العقاب، أصبحنا الآن نخاف نقد الثورة! هل هي دائرة مفرغة!