بين الإعدام الرمزي والإخلاص للثورة!

TT

يحق لتونس اليوم أن تحاسب كل من ألحق الأذى بالشعب التونسي وعاث فسادا في أمواله وحقوقه ودمه. وهو في الحقيقة أبسط استحقاقات الثورة علاوة على أن التاريخ يُكتب بالعبر وباستخلاص الدروس ومن المهم أن تعاد التنشئة السياسية والأخلاقية والقيمية للأجيال الجديدة مصحوبة بمبدأ ضرورة المحاسبة كي تتجذر فيها فكرة القانون وعلويته وأن الفساد مهما طال وامتدت جذوره عميقا فإن النهاية هي المحاسبة. ولكن شتان بين محاسبة المذنبين أصحاب جرائم المال والدم وبين نظرية الاجتثاث على الطريقة العراقية وتطبيقها على شاكلة عقوبة جماعية، تضع الكل في قفص الاتهام وتصدر ضدهم حكم الإعدام الرمزي. فمرسوم القانون الذي صادق عليه مجلس «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي» قبل أكثر من أسبوعين والذي رغم رواج أخبار حول إمكانية تعديله لا يزال يثير الجدل، يستحق التوقف عند دلالته وما قد يستبطنه من مزالق. فالشاكلة الأولى التي ورد عليها المرسوم المقترح، تحظر على كل من تحمل مسؤولية في صلب الحكومة أو في هياكل الحزب الحاكم خلال الـ23 عاما فترة حكم الرئيس السابق بن علي، الترشح إلى عضوية المجلس الوطني التأسيسي، مثل هذا القانون في صيغته الأولى وصفه العديد من الخبراء في القانون وغيره بأنه موقف مشط.

وفي الحقيقة يبدو لنا هذا الوصف في محله وذلك لعدة أسباب أولها أن مجلس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة هو طرف لا يكتسي شرعية شعبية إضافة إلى أنه من خلال المصادقة على هذا المرسوم يكون قد سطا على وظيفة السلطة القضائية التي وحدها يحق لها توجيه الاتهام والتحقيق والمحاكمة وهو ما يبدو أنه في اتجاه التدارك.

من جهة أخرى نعتقد أن الحكم القضائي الذي صدر في شهر مارس (آذار) السابق والقاضي بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي هو في حد ذاته حكم يعني أنه ما عاد هناك من وجود قانوني للتجمعيين ولا لحزب التجمع الحاكم سابقا. كما أن حصول بعض المسؤولين السابقين على تراخيص أحزاب جديدة يتعارض مع منعهم من الترشح للمجلس الوطني التأسيسي باعتبار أنهم كأفراد يمثلون أحزابا جديدة ليس من حق أي جهة أو طرف حرمانهم من حقهم القانوني اللهم إذا أثبت القضاء تورطهم في قضايا ضد الشعب. وفي الحقيقة نحن أمام موقف يقوم على الإقصاء وعلى استدعاء ثقافة النظام السابق التي كانت قائمة على الإقصاء والتهميش وسياسة المشاركة السياسية قطرة قطرة. في حين أن الثورة، من مكارم القدر أنها عفوية وقام بها شباب بريء من الحسابات السياسية الضيقة ولم يكن له من طموح سوى الكرامة ماديا ومعنويا.

فهل من المنطق السليم أن نعيد بناء تونس من خلال تبني نظرية الاجتثاث واعتبارها آلية مهمة للإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي؟

ثمة حسابات حزبية سياسية ضيقة تسعى إلى تهيئة المناخ الانتخابي على المقاس. ذلك أن التفكير الديمقراطي يقول إن الإقصاء يكون إما بالقضاء والقضاء النزيه والمستقل أبعد ما يكون عن منطق العقوبة الجماعية، وإما من خلال صندوق الاقتراع الضامن الوحيد للشرعية والآلية المثلى للإقصاء. فمن الواضح أن الأحزاب التي هيمنت على مجلس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، إنما قامت بتبجيل مصلحتها الضيقة متناسية مصلحة الوطن والشعب التونسيين.

وينطوي تصريح رئيس الهيئة العليا الأستاذ عياض بن عاشور بأن عودة التجمعيين خيانة لإرادة الشعب التونسي على تجن على إرادة الشعب ذاتها القادرة على الإفصاح عن طريق صناديق الاقتراع. فالإخلاص للثورة يقتضي أفقا نفسيا وذهنيا واسعين كي يتمكن الشعب التونسي من تجاوز محنته السابقة وأخطر ما قد نقع فيه الانطلاق في بناء جديد وفي حوزتنا رصيد من الأخطاء ومن تهميش دور القضاء بالسطو عليه والتحول جميعا إلى قضاة نتصرف في القوانين دون اتزان ودون التحلي بالقدرة على التمييز. إن المرسوم في صيغته الأولى إضافة إلى رفض بعض الأطراف لتعديله وتصفيته من ذهنية الاجتثاث يحملان عدة رسائل تشير ربما إلى عدم إمكانية التنعم بثمار الثورة قريبا.

لقد ظلم العهد السابق الشعب التونسي وحرمه من انطلاقة أخلاقية وقيمية كبرى، فكانت النتيجة الخراب الذي أنقذته الثورة. فكيف إذن نؤسس من جديد للخراب ونعبث ببعض العمران الحداثي والتنموي؟