كردستان ضمن دائرة الأزمات.. والسلام الاجتماعي

TT

أجل، كردستان تعيش أزمة حقيقية. والأزمة التي تمر بها كردستان حاليا ليست وليدة الساعة، وليست صدى لأحداث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وليست نتاج المظاهرات الشعبية الأخيرة، وليست صنيعة المعارضة «حركة كوران – التغيير والجماعة والاتحاد الإسلاميين».

الأزمة في كردستان ليست من صنع أي مما ذكر آنفا أو من نتاجه على انفراد، لأن أسباب اندلاعها أقدم من الكثير مما ذكر، فهي أزمة قديمة وعميقة وواسعة النطاق، وذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بمعنى أن الأزمة في كردستان هي من إفرازات طبيعة أو آلية إدارة شؤون إقليم كردستان، وهي ثمرة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي انتهجتها قيادتا الحزبين الحاكمين، رغم أن أيا منهما أو أيا من المسؤولين لم يكن مستعدا إطلاقا حتى الأسابيع القليلة المنصرمة للاعتراف والإقرار بوجود أزمة حقيقية في هذا الإقليم، بل كان الحديث عن وجود مشكلات أو أزمات في الإقليم يثير فيهم الغضب والانفعال، إلى أن بلغت الأوضاع حد الانفجار وكادت أن تصل حد إزاحة السلطة، وعندها فقط أقروا بالواقع قائلين: «أجل، كردستان تعاني من أزمة حقيقية. ونعم، كردستان بحاجة إلى إصلاحات».

ورغم هذا الإقرار الواضح فإن السلطة لم تدنُ بعدُ من تشخيص الأسباب الجوهرية للأزمة ولا من أطر معالجتها أو آليات تنفيذها.

إن الأزمة الراهنة في كردستان رباعية الزوايا: الزاوية الأولى تتمثل في تلاشي ثقة الجماهير بالحزبين الحاكمين، واضمحلال ثقتها بعهودهما ووعودهما ومصداقية قياداتهما. والزاوية الثانية تتمثل في تفكك أواصر ثقة القواعد التنظيمية بقيادتي الحزبين نفسيهما، لا سيما بعد طول انتظار القواعد التنظيمية لانعقاد المؤتمرات الحزبية الموسعة. أما الزاوية الثالثة للأزمة فتتمثل في تلاشي ثقة الأعضاء القياديين بعضهم ببعض في كلا الحزبين، الأمر الذي يتجسد بوضوح في طبيعة الصراعات العلنية والخافية الدائرة بين أشخاص ومجموعات منهم لينال بعضهم من بعض. والزاوية الرابعة والأخيرة للأزمة تتمثل في انعدام ثقة الحزبين الحاكمين بعضهما ببعض، أي لا يثق أحدهما بالآخر ليسلمه السلطة أو أيا من الأجهزة الحساسة.

هذه الأزمة ذات الزوايا الأربع، والتي خلقت بمجملها حالة من زوال الثقة رباعية الأبعاد أيضا، قد زجت بكردستان في أتون أزمة عميقة وواسعة ذات حلقة مغلقة، يمكن تسميتها بأزمة فقدان الثقة. والنتائج المباشرة لهذه الأزمة تسببت وعلى نحو مباشر في إضعاف وشل المؤسسات الرسمية التي كان من المفترض أن تغدو المكان الصائب لحل المشكلات والأزمات في الإقليم. فالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي كان من المفترض أن تصبح المكان الصائب لحل المشكلات، وتغدو قواسم مشتركة بين الجميع، باتت بمجملها جزءا من المشكلات القائمة، وتخضع تماما لتأثيرات تلك الأزمات والمشكلات التي يخلقها الحزبان الحاكمان.

من هنا فإن فقدان الثقة بالحزب وسياساته امتد إلى فقدان الثقة بسلطات الإقليم كافة، أي بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

أمر آخر لا بد من ذكره هو السلام الاجتماعي الذي هو جوهر ولب الأمن القومي، فالسلام الاجتماعي هو السلام الذي من الضروري تأمينه كي يتحقق الأمن القومي في أي بلد، وبين أبناء القوميات والأعراق المختلفة وبين الأديان والمذاهب المختلفة وبين الثقافات المختلفة، بل وحتى بين الشرائح الاجتماعية المختلفة والأفكار السياسية المتباينة... إلخ، إضافة إلى الاختلافات في ما بينها.

أما تحقيق هذا السلام فيتطلب جملة من الشروط. الأول: الإقرار بتلك الاختلافات والتباينات واحترام خصوصياتها، والقبول بالآخر رغم الاختلافات. الثاني: تحقيق العدالة في حقوق المواطنة، وتدوينها في القوانين ودستور البلاد، وتنفيذها على أرض الواقع. الثالث: أن يشعر المواطن بأن له حصة في الثروة الوطنية، ويشارك في صنع القرارات المصيرية بالبلاد، بغض النظر عن اختلافات الجنس والمنطقة والدين، وقبل كل ذلك الانتماء الحزبي.

إن السلام الاجتماعي في ظل الوضع الراهن في كردستان يواجه مخاطر حقيقية، وإن مصدر تلك المخاطر هو السلطات السياسية لنظام الحكم نفسها، لأنها قسمت الإقليم إلى شطرين يخضع كل منهما لنظام حكم حزب منفرد، وفي كلا الشطرين يجري تقسيم المواطنين إلى فئتين على مستوى حقوق المواطنة، فالسلطات السياسية تتخذ من الانتماء إلى أحزاب السلطة بديلا للانتماء الوطني ومعيارا لتصنيف أبناء الشعب إلى مواطنين من الدرجة الأولى أو الثانية.

والمواطنون المصنفون ضمن الدرجة الأولى هم من كوادر وأعضاء ومؤيدو وأصدقاء الأحزاب الحاكمة، الذين هم مستفيدون على نحو مبرمج من الامتيازات المادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي توفرها السلطة لهم. أما المصنفون ضمن الدرجة الثانية فهم من غير المنتسبين إلى أحزاب السلطة، والذين يحرمون عمدا من كل امتيازات السلطة، لإرغامهم على الانضمام إلى جيوش المتحزبين.

وعلى مدى سنوات عمر نظام الحكم السياسي الكردي، الممتد من فترة ما بعد انتفاضة عام 1991 وحتى يومنا هذا، لم يواجه السلام الاجتماعي قط مخاطر التفكك والتشويه كالتي يواجهها الآن، لأن الخلافات الاجتماعية والسياسية والمشكلات الاقتصادية والثقافية آخذة في التعمق. فالتباين الطبقي بين أقلية ثرية وأغلبية فقيرة، والناجم أصلا عن تكالب رموز السلطة مع أصحاب المشاريع الاقتصادية وكبار التجار من جهة، والخلافات بين المطالبين بتوسيع رقعة الحريات العامة، وبين حماة تقليص الحريات، وما نتج عن ذلك من إصرار للسلطة على إضفاء الشرعية القانونية على نظام حزبي - شمولي، مقابل إصرار النخب السياسية على إقامة دولة مؤسسات - قومية، من جهة ثانية، تحولت بمجملها إلى مخاطر جدية تتهدد السلام الاجتماعي الذي يمثل الجوهر الأساسي للأمن القومي.

لقد أفرزت أحداث 17 من فبراير (شباط) مجددا سلسلة من الحقائق، الحقيقة الأولى هي أن طبيعة النظام الإداري في مختلف المجالات الحياتية للمواطنين خلقت تصدعا في المجتمع، وقسمته إلى أناس ظالمين ومظلومين، فالمظلومون وعلى الرغم من اختلافاتهم الآيديولوجية ومواقعهم الاجتماعية وتحصيلاتهم الدراسية ومستوياتهم الثقافية، انبروا مطالبين بحقوقهم. والحقيقة الثانية هي أن نظام الحكم وبغية ديمومة بقائه في السلطة لن يتورع في قمعه للشعب وفرض حالة «الأمر الواقع» عن ممارسة العنف بكل أشكاله، لأن غايته الأولى هي الاستمرار في السلطة، لا الحرص على تحقيق السلام الاجتماعي وصيانته.

* منسق حركة (كوران) التغيير المعارضة

في إقليم كردستان العراق