إسلام.. إسلامان

TT

ما الذي يفعله المعتل الذي مزق الجراحون جسمه وطرحوه على الفراش ساخطا على الحياة خائفا من الموت في هذا الزمان؟ يلقي بهمومه على هذا الجهاز العجيب، بتاع كله! التلفزيون. مسكت بالريموت ورحت أنقل شاشته من محطة إلى محطة. قتلى وذبحى في ليبيا، مثل ذلك في سوريا، مثل ذلك في اليمن، في كل مكان. أعوذ بالله. رحت أفتش عن تلاوة طيبة من القرآن الكريم، فأدرت الشاشة إلى طهران حيث اعتدت على سماع عينات خالدة من التلاوات. ولكنني لم أجد غير عزاء آخر من عزاءات الحسين ولطميات أوسع وأكبر. ولم يترك لي الجراح من صدر ألطم عليه لأشاركهم. أعوذ بالله.

كبست على الريموت ثانية وإذا بي ألتقي بمحفل من محافل مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الحفل منقولا من الجناح البغدادي من قصر توبكابي، قصر سلاطين آل عثمان المطل على بحر مرمرة. وكانت القراءة من فرقة الكندي (تخليدا للمفكر والفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي) وترأسها وقاد موسيقاها بكر بيوكباص، رئيس المؤذنين في جامع السلطان فتحي. فقلت للنفس هذا مقامك يا نفس فاقعدي. فمن كان يريد أن يفهم ويذوق طعم فن المقام فليستمع إليه يشدو:

مدد يا رسول الله

مدد يا صاحب الديوان

مدد يا حبيب وطبيب القلوب.

وكخلفية لهذه الكلمات الخالدة، وما تلاها من مدائح شعرية عثمانية باللغة التركية كان العازفون والعازفات ينقرون نقرا خفيفا على الدفوف والدنابك اختلط خلطة البقلاوة والقطائف الرمضانية مع العزف الرقيق على أوتار القانون. وكان الموضوع كله عملا سيمفونيا رائعا على مسامعي أنساني كل أوجاعي وهمومي.

تلا ذلك تسجيل لفرقة صوفية خلطت بين القديم والجديد. فالصوفيون مؤمنون بسنة التطور، كما هو الأمر بالنسبة لكل الصيغة المتطورة من فقه دين محمد بن عبد الله في هذا البلد الإسلامي المتقدم الذي ينظر قدما إلى الأمام وليس إلى الوراء. لحظات، وطلع على المسرح أحد الدراويش. خلع جبته السوداء وقبلها ووضعها جانبا وأخذ يدور دورة الرقص الصوفي، يرفع يده اليمنى إلى السماء ليتلقى بركات الخالق ويخفض يده اليسرى إلى الأرض لينقل إليها تلك البركات. مضى يدور ويدور على إيقاع الدفوف والدنابك والآلات الوترية والنحاسية حتى انضمت إليه درويشة أخرى، امرأة فعلت فعله، ما لبثت حتى خلعت جبتها السوداء وظهرت بسروالها وقميصها الأبيضين، نثرت شعرها الكستنائي الطويل على كتفيها ووجهها واندفعت تشارك وتنافس رفيقها بقوامها الرشيق في هذا الرقص الروحاني. ففي تركيا المتطورة، قلما تجد ميدانا لا تشارك فيه المرأة المسلمة، حتى ولو كان الموضوع دروشة.

رقصا معا والمقرئ يتلو أشعارا من جلال الدين الرومي:

سألوا الناي، لماذا تئن هكذا بهذا الأنين الحزين؟

لأنني قصبة قطعوني وأخذوني بعيدا عن أصحابي القصب!