العالم بعد بن لادن

TT

في 11 سبتمبر (أيلول) خرمت طائرات بن لادن مبنى التجارة في نيويورك، وباختفائه اليوم يحدث خرما في الاستراتيجية الكونية. هناك رغبة عارمة لدى المناهضين للإسلام السياسي، وربما أنا كنت منهم، أن نقول إن بن لادن ورقة احترقت وقتما أريد لها أن تحترق، وإن ما شهدناه منذ نهاية الحرب الباردة وظهور الإسلام السياسي كعدو عند الغرب، ما هي إلا مسرحية اقترب إسدال الستار على آخر فصولها، بموت رمز الجهاد المعاصر أسامة بن لادن.

هذا صحيح إلى حد ما، ولكنه رؤية محدودة وقاصرة، فموت بن لادن قد لا يعني الكثير في الشرق، ولكن خروج بن لادن من المعادلة الدولية في رأيي هو خرم كوني في الاستراتيجية العالمية لتوازن القوى. فمنذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 تغيرت توجهات القوات المسلحة في الدول الكبرى، وصوبت مدافعها إلى بن لادن، أو الأماكن التي يشتبه بوجود أنصاره فيها؛ باكستان، وأفغانستان، والصومال، واليمن.. إلى آخر هذه القائمة من الدول الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل. هذه الاستراتيجية ستتغير إما إلى عالم مقبل بلا بن لادن، أو إلى وضع جديد، وفي عملية التحويل هذه لا بد من حدوث خلخلة للمشهد الاستراتيجي العالمي.

بداية التغير في طريقة تعاطي الغرب مع عالمنا.. فمثلا، زعماء منطقتنا الذين كانوا يتذرعون بأسامة بن لادن وخطر الأصولية الإسلامية كي يبقوا في أماكنهم بالأربعين والثلاثين سنة، لن يجدوا - بعد أسامة - من يستمع لتبريراتهم الواهية. هذا الكلام «الفِشِنْك» الذي كان يصدقه الغرب رغم تهافت منطقه وضعف حجته، لم يعد لينفع في عالم ما بعد بن لادن. وباكستان هي الخاسر الأكبر من نهاية حكاية «أُمّنا الغُولَة» (بن لادن سابقا)، فقد حصلت من أميركا على أكثر من مائة مليار دولار في حربها على الإرهاب الوهمي، هذه البقرة الحلوب انتهت تماما.. فكما كان نظام مبارك يحلب بقرة السلام بين العرب وإسرائيل وها هي البقرة تتوقف بعد الثورة، كان الباكستانيون يحلبون بقرة بن لادن التي درت عليهم الخير الكثير.

نهاية بن لادن وسقوط مبارك أسقطا مادتين أساسيتين للاسترزاق الدولي من قبل نظامين دكتاتوريين؛ مصر لم تعد الآن تقبل بلعب دور محرر الجندي الإسرائيلي في غزة جلعاد شاليط. كان شائنا في العهد السابق أن تكون مهمة عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية في عهد مبارك، هي الغدو والرواح بين إسرائيل ومصر من أجل تحرير شاليط، انحسر الدور المصري في دور عمدة قرية أو شيخ قبيلة من أجل تحرير رهينة. ومع ذلك، فهذا الاسترزاق الرخيص في العلاقات الدولية قد انتهى، ومعه انتهت استراتيجية دولية تعتمد على الدولتين (مصر وباكستان) في إشاعة الاستقرار في المنطقة المركزية أو الشرق الأوسط الكبير، كما كان جماعة بوش يسمون المنطقة ما بين المغرب وأفغانستان. نهاية هذين الدورين، ستجعل كثيرين يبحثون عن وظائف جديدة أو يطالبون بإعادة تأهيلهم في المعادلة العالمية الجديدة في عالم ما بعد بن لادن.

في عالم ما بعد بن لادن، أميركا ستتفرغ لإيران وحلفائها، فبعض تخلصهم مما يعرف بالخطر السني من خلال مقتل بن لادن ومن خلال ثورات الشرق الأوسط، لم يعد هناك إلا الخطر الشيعي، الذي تتضح ملامحه في القوس الشيعي المعروف، على حد وصف ملك الأردن.

نهاية بن لادن أيضا تعني أن الغرب سيعيد بناء وتشكيل علاقاته بالعالم الإسلامي من إندونيسيا حتى المغرب، ستتوقف مساعدات وستزيد مساعدات أخرى.. ستتوقف صناعة أدوات القمع، ويبيع لنا الغرب أو يمنحنا دون مقابل تكنولوجيا الحرية. دول كثيرة ستنضب عنها المساعدات، وبذلك تعتمد على نفسها، وفي ذلك؛ إما ستسلك سلوكا دوليا محمودا، أو تعود إلى البلطجة الدولية بأسماء أخرى.

أما إسرائيل، فهي الخاسر الكبير بموت بن لادن، فلم يعد ممكنا أن تربط إسرائيل صراعها مع الفلسطينيين بالحرب العالمية على الإرهاب، سيعود الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى اسمه الحقيقي، وهو احتلال دولة لأرض الغير بما ينافي كل القوانين والأعراف الدولية. موت بن لادن سيجبر إسرائيل على العودة لطاولة المفاوضات. كما أجبر موت كفيل فتح (مصر مبارك)، وكذلك مرض كفيل حماس (سوريا الأسد)، على التوقيع على وثيقة مصالحة، فإن نهاية كفيل إسرائيل العالمي بموت بن لادن، لا تبقي أمام نتنياهو وجماعته سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فمهما غنى نتنياهو في آذان الغرب - وهو يفعل هذا بشكل يومي في رحلته الحالية إلى بريطانيا - فالنتيجة التي علمتها مباشرة، هو أنه لم يجد من يستمع إليه.

موت بن لادن بمثابة خرم في الاستراتيجية الكونية.. خلل في النظام الكوني، ليس لأنه كان مهما، ولكن لأن دولا بنت استراتيجيات كبرى بناء على وجوده، ومجرد اختفائه من المشهد يعني تغييرا في الاستراتيجيات الكبرى هذه.