المصالحة فلسطينية.. ولكن الشعار هو «مصر أولا»

TT

نحن في القاهرة بعد سنوات طويلة من الغياب. القاهرة مدينة عربية ولكنها مدينة مختلفة. أنت تسير في الشارع كما في أي مدينة عربية أخرى، ولكن الجمهور الذي تصادفه هنا من حولك، يختلف كثيرا، ويختلف نوعيا، عن الجمهور الذي يحيط بك في شوارع أي عاصمة عربية أخرى. الجمهور هنا يسير على عفويته، غني وفقير لا يهم. كل إنسان كما هو. متحررون ومحافظون، من يهمس بحديثه، ومن يطلق العنان لصوته، والكل يجد متعة في أنه يسير في الشارع. السهرة هي التجول في الشارع، إنما من حولك النيل، يعطي النيل نكهة للتجول ليس لها مثيل في أي مكان آخر، فتسأل نفسك ما هو الاختلاف بين القاهرة وسواها؟ وتقول لنفسك إن ما يحيط بي هنا هو «الشعب»، الشعب بكل عفويته وبساطته وتنوعه، فتشعر بالراحة.

جئنا إلى القاهرة مدعوين لحضور المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، بين الضفة وغزة. الضفة وغزة انتقلتا إلى القاهرة، كل من تعرفه أو لا تعرفه، كل من سمعت به، أو شاهدته على التلفزيون، موجود حولك. وحتى النواب من عرب 1948 موجدون هنا. لا نعرفهم. لا يعرفوننا. ولكن هناك معرفة خفية منهم ومنا. من الفندق إلى قاعة الاحتفال في وزارة المخابرات. ثلاثة مقاعد فارغة في صدر القاعة، والكل جاء ليجلس في المكان المخصص له بالاسم. الجميع كانوا هناك. الجميع المعنيون بالمصالحة أو بالسياسة.

الحفل محدد له أن يبدأ في ساعة معينة، ولكن الوقت يمضي ويتأخر الحفل. يدرك الجميع، وكلهم خبراء، أن مشكلة ما تعرقل بدء الحفل، ثم يدخل أصحاب الكواليس، ونفهم طبيعة المشكلة: من سيجلس في مقاعد صدر القاعة الثلاثة؟ ثم نشاهد أبو مازن وحده يجلس إلى جانب وكيل وزارة المخابرات (راعي تنظيم المصالحة). أما الطرف الثاني في المصالحة فيجلس في الصف الأول بين الحضور، ونسأل لماذا؟ فيأتينا الجواب: السلطة لها رأس واحد لا رأسان. وعلينا أن نفهم من خلال ذلك طبيعة المصالحة التي تتم. هل هي مصالحة بين طرفين؟ أم هي شيء آخر؟ ويكبر السؤال ويخيم على القاعة كلها.

ثمة مناخان في القاعة، مناخ فرح واستبشار ومن خلاله يتم تبادل التهاني بنجاح المصالحة. ثم مناخ إدراك لأهمية الدور المصري بنجاح المصالحة. ولكن كيف؟ ثمة سنوات مضت ولم تنجح مصر في الوصول إلى لحظة المصالحة. ماذا تم حتى تغير الوضع؟ مصر قبل التغيير كانت قريبة من أحد أطراف المصالحة أكثر من الآخر، وكانت تميل إلى تمكين الفريق القريب منها ضد الفريق الآخر. مصر بعد التغيير كان لها موقف مختلف، تقترب من الفريقين بمقدار واحد، وتميل إلى التعامل مع الطرفين بمعيار واحد. ولذلك استطاعت أن تنجز ما لم يتم إنجازه من قبل. وهذه ليست نقطة عادية، وليست نقطة مجاملة، إنها أهم من ذلك وأعمق، فمصر التي تتعامل مع الجميع بمعيار واحد، تترجم موقفها بالاستعداد لقبول التعديل على الورقة المصرية، فيتم إعداد الملاحظات، ويتم ضم الملاحظات إلى ورقة المصالحة، وهو ما كان مرفوضا في السابق. ومصر التي تتعامل مع الجميع بمعيار واحد، تترجم ذلك على الأرض وتعلن استعدادها لفتح معبر رفح، وهو تغيير يبدو بسيطا، ولكنه يجسد التوجه نحو تغيير عميق في السياسة المصرية تجاه الاحتلال الإسرائيلي، فمصر من خلال هذا الموقف صديقة للفلسطينيين كلهم وليس لطرف واحد فقط، مصر من خلال هذا الموقف صديقة للعرب كلهم وليس لطرف واحد فقط. ومطلوب من إسرائيل أن تفهم ذلك، وأن تفهم أن خطا سياسيا جديدا قد بدأ يتبلور في السياسة المصرية. مصر ليست في حالة حرب مع إسرائيل، ولكنها صديقة للفلسطينيين وللعرب، وعلى إسرائيل أن تستنتج ما يترتب على ذلك.

هذا التغيير في موقف مصر السياسي، برز بهدوء، برقة، بنعومة، ولكنه كان عميق الدلالة، فمصر الموجودة بين العرب تشيع حولها تأثيرا كبيرا، أعلنت ذلك أم لم تعلن. وقد التقط الإسرائيليون حالة التأثير هذه، فأعلنوا معارضتهم للمصالحة، وهددوا بتخريبها. وكذلك التقط الفلسطينيون حالة التأثير هذه، وأدركوا أهمية التجاوب معها. رأوا مصر معهم، فقرروا أن يكونوا مع مصر، وقرروا أن يكونوا إلى جانب مصر.

المصالحة الفلسطينية، ومن خلال هذه الرؤيا، هي إدراك لأهمية أن تكون مصر مع الفلسطينيين (وليس مع إسرائيل)، وأهمية الاستفادة من التأثير المصري في الحالة العربية كلها.

المصالحة الفلسطينية من خلال هذه الرؤية، هي مصالحة مع مصر، وهي اقتراب من مصر، لا يجوز لمن يعمل في السياسة أن لا يتفاعل معها.

ولذلك كان التفاؤل بالمصالحة، وكانت أصوات التهاني تتردد في أصداء القاعة، وكلما التقى شخص مع شخص وتبادلا التحية والسلام. ولذلك كان الفرح في غزة ورام الله. ولذلك أيضا كان فرح المصريين من كل الأطياف بالمصالحة.

إنما.. إلى جانب ذلك، كان هناك جو آخر، جو فلسطيني داخلي يعبر عن الحذر. ماذا بعد المصالحة؟ ما هي الإجراءات العملية؟ ما هو الإطار السياسي للمستقبل؟ أسئلة كثيرة، وكبيرة، ومغلقة. اختزنها الفلسطينيون الحاضرون في أذهانهم من أجل الاحتفال بالمصالحة، وشكل ذلك مزيجا من التفاؤل والقلق. التفاؤل بمصر الجديدة، والحرص على مصر، والقلق من الرؤى المختلفة للتفاصيل، وللخطط، وللنهج السياسي المستقبلي.

ويقف الوضع الفلسطيني الآن أمام هذه النقطة الحرجة، ويتم سرد استفسارات كثيرة حول هذه النقطة أو تلك. ولكن الأجوبة تأتي متفائلة أحيانا، وبعيدة عن التفاؤل أحيانا أخرى. والضمانة الوحيدة أنه لا أحد يريد الابتعاد عن مصر، وأنه لا أحد يستخف بأهمية أن تكون مصر قد أصبحت موجودة في قلب السياسة العربية، ولو بخطوات أولى تبدو بسيطة حتى الآن، ولكنها تتفاعل مثلا على ضوء حريق محطة إرسال الغاز المصري إلى إسرائيل في سيناء، ويصبح وقف إرسال الغاز خطوة مصرية أخرى تدخل قاموس سياستها العربية.

إن الوضع يشبه لوحة الفنان. إنها واضحة في ذهنه، ولكنها لا تظهر على اللوحة دفعة واحدة، ولا يمكن النظر إليها كاملة إلا بعد أن تكتمل. والكل الآن ينتظر أن يطل على اللوحة حين تكتمل.