غزوة الـ«كاميليا»!

TT

مشاهد «التطرف» الشديد واللغة الدينية الموتورة تواصل صعودها في أكثر من موقع مختلف من الدول العربية التي انطلقت منها الثورات والاحتجاجات، وأصبحت هي «فزاعة» الرعب التي يخشى منها الناس ويخوَّفون بها. الجماعات الأصولية المتطرفة تدرك تماما أنها الخاسر الأكبر في الحراك السياسي الشعبي الحاصل الآن، خطاب سياسي جديد أساسه العدل والمساواة والحقوق والواجبات ضمن إطار تسامحي وسطي وعقلاني، وهو طبعا سيجعل خطابهم المطروح اليوم شاذا ومخيفا ومرفوضا. وبالتالي لا ملجأ لهم لإثبات موقعهم على الساحة السياسية سوى «برفع الصوت» والتهديد العلني، وهو ما يحصل بأشكال مختلفة في تونس ومصر والأردن واليمن وسوريا بدرجات متفاوتة.

لكن ما يحدث في مصر يبقى مثيرا للاهتمام؛ لأن الثورة المصرية مضى عليها أكثر من مائة يوم، والحراك السياسي فيها مستمر، وخلال ذلك كله صعد الصوت المتطرف بقوة (ليس بسبب الكثرة العددية)، لكن بسبب تصريحات ومواقف وآراء غريبة وشاذة على أبناء البلد.

علاقات المسلم بالمسيحي، علاقات الرجل بالمرأة، السياسة، الفن، السياحة، الآثار، الأدب، كلها قيد المراجعة، وكلها دخلت في دوائر التحريم والشرك والبدعة، وهي آراء جديدة على بلد يحتضن الأزهر الشريف قلب النتاج الفقهي للعالم الإسلامي، وقد اختارت هذه الجماعة مواقف معينة لاستعراض عضلاتها فيها، ولعل من أهمها: الاستفتاء الأخير على تعديل الدستور الذي «روجت» لنتائجه لاحقا بأنه كان من نتاج عملها وخطابها على الساحة، واعتبر أحد مشايخها ورموزها في حديث له أن ما حدث في الاستفتاء هو رسالة، وأنه كان بمثابة «غزوة الصناديق»، والذي لا يعجبه فليهاجر إلى أستراليا أو كندا (وذلك في إشارة للأقباط كي يهاجروا من مصر). وآخر «مواقف» الجماعة كان تهديدهم باغتيال البابا شنودة، رئيس الكنيسة القبطية بمصر، واقتحام الكنائس لأجل «تحرير» كاميليا شحاتة، المرأة المصرية القبطية التي روجت الأخبار أنها أسلمت واحتجزتها الكنيسة واعتبر كثير من رموز هذه الجماعات أن هذه قضيتهم الكبرى وراحوا يهددون ويتوعدون ويؤكدون علمهم بـ«المؤامرة» الكبرى، حتى ظهرت كاميليا في مقابلة تلفزيونية لتقول إنها مسيحية وتعتز بدينها ولم تبدله في يوم من الأيام، لتثور ثائرة الجماعة وتهاجم إحدى الكنائس بالقاهرة ليسفر ذلك عن وفاة خمسة أشخاص وجرح أكثر من ثمانين آخرين، لكن جرح الفتنة عاد للنزيف مجددا بعد أن هدأ إبان أيام الثورة المصرية التي كانت هذه الجماعة خارج مشاهدها المثالية الجميلة.

في ظل بروز هذا الصوت المتوتر الذي يعلم تماما أنه قد يعاني «حشرجة» في ظل الحراك الحاصل الآن، لأنه لن يكون لديه القبول ولا الحضور الواسع العريض، وذلك بسبب قراءته الضيقة لمبادئ الدين وسماحته، التي تجعل كل ما يقدمه ويطرحه غريبا في ظل إجماع واسع على مفاهيم أخرى في جميع أنحاء العالم الإسلامي وعلمائه؛ لذلك يهتم بإحراز نقاط شعبية في معارك محدودة تلقى القبول والتسجيل الإعلامي والتداول العام الشعبي.

تونس ومصر والأردن واليمن وليبيا وسوريا والبحرين جميعها لديها نماذج من أتباع التشدد المقصود هذا، وهو «فكر» صعب التفاهم معه وتبني المفاهيم المقاصدية ولغة الحريات والمجتمع المدني والحقوق، كما أثبتت جولات من الحوار ومن الأطروحات المختلفة، وعليه فإن هناك مسؤولية عامة تقع على عاتق المجتمعات العربية من ألا تبتز الناس المتشوقة للحريات والكرامة والحقوق والعدالة باسم الدين وخطابه المتطرف والمتشدد الذي «يعتقد» أنه يتحدث نيابة عن الخالق والحق و«يعلم» بما هو صالح للناس والبلاد، وهذا افتراء عظيم.

الحراك العربي العظيم الحاصل الآن يحاول أن يختطف من تيارات مختلفة، والمتشددون حتما ستكون لهم جولات في هذا الشأن، هم لم يسهموا في هذا الحدث العظيم ومن المعيب أن يجنوا ثماره!

[email protected]