السلفية «الجهادية» تخترق الانتفاضة السورية

TT

كنت قد وعدت أن يكون حديث الثلاثاء (اليوم) عن تاريخ علاقة الطائفة العلوية بالجيش السوري. لكن ما زال الحاضر يثقل الوطأة على الماضي. فقد طرأ تحول جديد على الساحة السورية المضطربة، يلمح إليه النظام، وتتجاهله مع الأسف الانتفاضة السلمية. وأرى من واجبي أن أتحدث عنه، بصراحة، لخطره على الحاضر والمستقبل.

مع الاقتحام العسكري لدرعا عاصمة الجنوب (25 أبريل/ نيسان)، ثم اقتحام حمص (عاصمة الوسط) في نهاية الأسبوع الماضي، والاستعداد لاقتحام المدن الساحلية بدءا ببانياس، يبدو واضحا أن النظام قرر توريط الجيش في المحظور. أعني محاولة سحق الانتفاضة الشعبية بالقوة المسلحة.

الاقتحام العسكري تسبب في مقتل وجرح واختفاء مئات المدنيين في «جمعة التحدي» (6 مايو/ أيار). ترافق الاقتحام بشن الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة (بيتا. بيتا. في درعا. وفي سقبا بريف دمشق. وفي الرستن المجاورة لحمص. وهي مسقط رأس العماد المتقاعد مصطفى طلاس وزير الدفاع السابق والخل الوفي للنظام).

ضاقت السجون بألوف المعتقلين. فتم حشدهم في الملاعب الرياضية، والصالات المغلقة. كان هناك هدفان للعملية العسكرية/ الأمنية المشتركة. الأول اعتقال «المفاتيح» التي تحرك الانتفاضة الشعبية، لشل القدرة على الحشد والنزول بالناس إلى الساحات والميادين.

فشل هذا الرهان على القمع الجماعي. في جمعة التحدي، حملت الانتفاضة الملتهبة، من الفرات إلى البحر عرضا. ومن القامشلي شمالا، إلى درعا وجاسم وإزرع ونوى جنوبا، اللافتات المطالبة بترحيل النظام، وأغصان الزيتون والورود، وهي تحاول رشقها في فوهات بنادق الجنود، والمدافع المصوبة إلى الصدور.

أما الهدف الثاني، فقد كان اعتقال «مفاتيح» الحركة السلفية التي تمكنت من تحقيق اختراقات للانتفاضة هنا وهناك، والالتحام بها، لا سيما في الجنوب (محافظة درعا/ حوران) وفي ريف دمشق، ثم في الشمال الشرقي، حيث استورد الأكراد السوريون، من إقليم كردستان العراقي المجاور، شبح الحركات، السلفية الكردية التي باتت تنافس حزبي طالباني وبارزاني التقليديين.

أترك اليوم الحديث عن تاريخ نشوء الحركة السلفية ذات الطابع الجهادي في سوريا، إلى حديثي المقبل عن صدامها مع نظام الطائفة، لأقول إن الحركة السلفية ذات الطابع الدعوي والتلقيني، عرفت ازدهارها الواسع في عهد الرئيس بشار (2000/ 2011)، على الرغم من أنه كان يصر على تغليف طائفية النظام بـ«العلمانية»!

لكن لماذا تركز نشاط الحركة السلفية السورية في حوران (محافظة درعا) خلال الانتفاضة الشعبية؟ ولماذا اتخذت منحى «جهاديا»، محاولة فرضه على سلمية الانتفاضة، عبر الالتحام بها؟

الأسباب غير المباشرة كثيرة: الفقر. القحط. التزايد السكاني الهائل. اليأس. البطالة. استعلاء النظام. لا مبالاة الحكومات المتعاقبة. السبب المباشر قمع الأجهزة الذي حدا بجلادي الأقبية إلى ممارسة التعذيب، بقلع أصابع المعتقلين الصغار، من دون أن ترق قلوبهم ومشاعرهم للبكاء. عندما نزل الآباء إلى شوارع درعا مطالبين بالإفراج عن «زغب القطا» استحضر المحافظ والمسؤول الأمني الميليشيا الطائفية بطائرات الهليكوبتر. نزل أصحاب القمصان الفاشية السوداء، ليطلقوا الرصاص الحي فورا على الآباء.

كانت المجزرة فرصة سانحة للسلفية (الجهادية) للالتحام بالانتفاضة. ثم للقيام بعمليات انتقام مسلحة، ضد حواجز الأمن والجيش في ريف حوران. ثم امتدت عمليات الكر والفر إلى ريف حمص. وحماة. وإدلب، في وسط البلاد وشمالها. بيد أنها لم تكن لتضاهي عمليات القتل والاغتيال المروعة التي مارستها الميليشيات النظامية ضد المدنيين المسالمين.

«أبنت الدهر، عندي كل بنت/ فكيف وصلت أنت من الزحام؟!». لعل المتنبي كان مصيبا عندما تكهن قبل ألف سنة، بوصول السلفية الجهادية إلى حوران. من أين؟ آه! من الأردن!

النظام الأردني لم يصدر البضاعة. فهو أيضا مبتلى بانتفاضة «جهادية» في مدنه الشمالية القريبة من الحدود السورية (الزرقا. الرمتا. المفرق). الزرقا مسقط رأس أبي مصعب الزرقاوي وموطن مشايخه ومفاتيه التكفيريين. قتل الزرقاوي من العراقيين أكثر مما قتل من المحتلين. ثم امتدت أصابعه لتنفذ ببراعة مروعة عملية الفنادق في عمان (2005) التي قتل فيها نحو 200 إنسان.

مصرع الزرقاوي (2006) لم يقوض الحركة السلفية الأردنية. مع انفجار الانتفاضة السورية، كانت الأجهزة الأمنية الأردنية تخوض مواجهة صعبة مع السلفيين، في مدن الحدود مع سوريا، أصيب فيها العشرات من الجانبين. غير أن ذكاء الأمن الأردني أوسع قدرة على المناورة في الردع، من جاهلية الأمن السوري في القمع.

القمع الداخلي أعاد نظام بشار إلى مربع العزلة الإقليمية والدولية التي عانى منها (2005/ 2008): أميركا وأوروبا توبخان النظام. تفرضان عقوبات. تنتظران الانتهاء من نظام القذافي، لتتفرغا لنظام بشار.

تركيا تستضيف إخوان سوريا. من هناك، يعلن «المرشد» رياض عقلة انتهاء هدنة البيانوني مع الطائفة، واستئناف الجهاد. حتى أردوغان الصديق لبشار ينصحه بمصالحة الانتفاضة. العلاقة مع السعودية دخلت الثلاجة. «الجزيرة» سممت العلاقة بين قطر وسوريا. لم تبق سوى إيران/ نجاد التي تذرف دموع التماسيح على ردع شيعة البحرين. وتسكت عن قمع سنة سوريا. وحتى حماس تفكر بتغيير «عبقرية» المكان، عندما يحين الأوان.

بشار في «توجهاته» لحكومة عادل سفر يعترف بوجود هوة (يسميها فجوة) في التواصل بين النظام والشعب. سبق بشار الانتفاضة بكسب «بركة» المرجعية الدينية السنية، و«شاويشها» التلفزيوني الشيخ البوطي. ففي مقابل «الحوزات» الإيرانية المنهمكة في «تشييع» السوريين (باستثناء العلويين) صدرت مراسيم بإنشاء معاهد دينية سنية. وأعيدت المعلمات معتمرات الرأس والوجه بالنقاب والحجاب، إلى المدارس الرسمية.

بقيت الإصلاحات على الورق، ببقاء الجلادين على رأس الأجهزة الأمنية. يتهمهم بشار بالأمية. لكن لا يستطيع تغييرهم. قيل إنه عاقب اللواء الأمني علي المملوك. لكن «المماليك» الآخرين ما زالوا يطاردون غوغل. وفيس بوك. وتويتر. يصفقون لسلاف فواخرجي «مداحة» النظام. ولنجوم «الدراما» الطائفية الذين غزوا مصر. ويطالبون بالسماح لهم بنزع أظافر ونجومية النجمة منى واصف المعارضة للنظام.

كانت الانتفاضة من الوعي، في الحرص على سلميتها، بحيث شكلت في بانياس وحمص لجانا للإدارة المحلية في الأحياء الشعبية. المحافظ «الإصلاحي» الذي أوفده بشار إلى حمص، أمر بحل هذه اللجان!

لا بد من تذكير الانتفاضة السورية بأن قوتها في سلميتها. في قدرتها على الحشد. في إصرارها على الإصلاح والتغيير. في حماية نفسها من الاختراق، ليس فقط من «مندسي» النظام، وإنما من السلفية «الجهادية». التحدي الأكبر للانتفاضة هو في إقناع السلفيين بالتخلي عن السلاح. والاكتفاء بالنضال السلمي. السلفيون قادرون على التعايش في سلام مع المجتمع السوري المسالم، إذا ما تخلوا عن الانتحار. وعن الأحزمة الناسفة. وعن اغتيال الجنود والضباط، كي لا تغدو سوريا عراقا آخر يسبح بالدماء.