التطهر بالعنف وعلى الملأ

TT

كيف نفهم الاعتداء على الكنائس في مصر الذي كان آخره يوم السبت الماضي في حي إمبابة العشوائي والذي قتل فيه أكثر من عشرة مصريين وجرح أكثر من مائة وستة وثمانين آخرين؟ لماذا بدأ المصريون في قتل بعضهم البعض بهذه السهولة من دون شعور لا بالغضب ولا بالذنب؟ إجابة هذا السؤال تتلخص بشكل مبسط ومختزل في فلسفة التطهر بالعنف وعلى الملأ، التي اتخذتها عنوانا لهذا المقال. عبقرية نظام مبارك هي أنه ورط المجتمع برمته في الفساد، وجعل المصريين له شركاء في الحكم من خلال الفساد الصغير الذي طال الجميع تقريبا، وفي محاولة التطهر من نظام مبارك، قرر الكثيرون في مصر استخدام العنف بأشكاله المختلفة كنوع من التخفف من الأثقال، شيء أقرب إلى التطهر بالنار أو العلاج بالكي، لذا سيدخل المصريون في الفترة القادمة مرحلة عنف ثقافي، بمعنى الشتائم وإخراج بعضهم البعض من الملة.

والعنف الثقافي هو تمهيد يؤدي إلى العنف المباشر ويجعله مبررا. فمتى أخرجت شخصا من الدين والملة والوطنية، فأنت تستبيح دمه بين الجميع ولن يبكيه أحد إذا قتلته. المشكلة الأكبر هي لو أن العنف الثقافي أخذ شكلا مؤسساتيا، بمعنى أن نبني مؤسسات ورؤى فكرية تتسرب إلى القضاء والإعلام، مما يجعل القاضي يحكم ظلما ويظن أنه أحسن صنعا، وهذا ما كان يحدث في جنوب أفريقيا العنصرية، ففي فترة الفصل العنصري، كان نظام القضاء كله مرتبطا بفلسفة الفصل العنصري، فكان هناك قضاء للسود، ولكنه كان قضاء ظالما من أوله إلى آخره.

مصر بعيدة عن العنصرية، ولكن الطائفية ليست أقل بغضا من عنصرية جنوب أفريقيا. لقد هالني وروعني كم من المسلمين اليوم في مصر يتحدثون عن أسلحة الكنيسة وعن رغبة المسيحيين في السيطرة، وكلها مؤشرات لمرحلة العنف الثقافي الذي سيقود إلى القتل الذي سيهلل له على أنه عمل وطني أو ديني يكافأ عليه المرء إما من قبل السماء أو من قبل من يحكمون الآن، وتلك هي الكارثة.

مشكلة مصر اليوم هي في فلسفة التطهر على الملأ، التطهر من التورط في فساد نظام مبارك، فتعلن المذيعة التي كانت تعمل لحساب أمن الدولة أنها ثورية، ويعلن ضيفها أنه مع الثورة قبل أن تبدأ ولكن نظام مبارك كان «كابسا على نفسه» ويعلن أنه إسلامي بدليل أنه لولا ظلم النظام لبنى مساجد في كل مصر على حسابه الخاص، وهو غاضب من تعنت الكنيسة ومن تطاول المسيحيين على المسلمين، كل هذا النوع من الهراء تسمعه يوميا على الشاشات المصرية، العامة والخاصة منها، وفي كل الحالات يحاول المذيع والضيف أن يدخل في وصلة طويلة من التطهر على الملأ. تحولت الشاشات المصرية إلى غرف علنية للتخلص من الخطيئة التي هي في الأساس النوم في أحضان النظام سابقا. يا أخي «المتطهر» نحن لا نريد أن نحاسبك، ويا «ستنا» المذيعة، «خلاص» سمعنا اعترافاتك أول مرة وسوف نعتبرك ثورية، «بس متعمليش الوصلة دي كل يوم».

الاعتراف مهم، ولكن يجب ألا ينقلب إلى نقيضه من خلال التطرف بقتل شركاء لنا في الوطن، هل أصبح الإسلام في مصر هو أن تقتل قبطيا أو أن تهدم كنسية ليقبلك الإخوان ضمن ثورتهم، أو يقبل بك السلفيون على أنك لم تكن جزءا من نظام مبارك. لا داعي لهذا، لأن السلفيين أنفسهم كانوا عماد نظام مبارك. فنظام مبارك كما قلت كان مبنيا على عمودين أساسيين هما الفساد والبلطجة، والفساد بمعناه الواسع، أي توريط كل المصريين في الفساد، من فساد الملايين إلى فساد بواب العمارة «أبو خمسة جنيه».

أما العمود الثاني للحكم فكان البلطجة، والبلطجة كانت لها دعائمها في نظام أمن الدولة ومراكز الشرطة أو الداخلية بشكل عام، كما أنها كانت لها ذراعها الثقافية ممثلة في مثقفي السلطة الذين كانوا يحتلون التلفزيونات والصحف، والسلفيين الذين كانوا يحتكرون المساجد ولديهم الفاكس الوحيد إلى الله من أجل تكفير من يخالف النظام. ولأن الجميع كان متورطا في نظامي البلطجة والفساد يحاول الكثير من المصريين اليوم التطهر من هذا والاغتسال من جنابة الحكم من خلال برامج «التوك شو» التي سادت مصر الآن، ومن خلال ضربهم للكنائس وتخليص مصر من مسيحييها، من أجل بناء الدولة الدينية الخالصة والصافية.

نحن أمام «زار جماعي» للتطهر بالعنف وليس والتطهر من العنف، وبكل أسف، أصبح إعلام مصر هو الوسيلة الوحيدة للإعلان عن التطهر بالعنف، والمروج الأول له. فهل من وقفة ضد هذه السوقية المكشوفة في بر مصر؟