من يقنع الدجاجة؟!

TT

نقلت إلينا الأخبار قبل أيام أن أحد اليابانيين قد انتحر لأنه اعتقد أن نهاية العالم قريبة! الأفكار عندما تترسخ في عقل إنسان تصبح صلبة كالحديد أو أشد صلابة، ويتصرف بناء عليها دون استخدام العقل.

هذه الأيام أقرأ كتابا - لروبرت ليسي – وعنوانه «المملكة من الداخل»، الكتاب كتب بشكل بانورامي يستطيع القارئ من خلاله أن يتعرف على المملكة العربية السعودية بحيادية معقولة. وما لفت انتباهي روايته لقصة جهيمان العتيبي ومن تبعه، عندما تلبستهم فكرة ظهور المهدي المنتظر، فأقنع من معه بأن صاحبه محمد بن عبد الله القحطاني، هو المهدي المنتظر، وأن المهدي سوف يخرج إلى الناس على رأس القرن الهجري، قرر حينها جهيمان أن عام 1979م هو العام الذي يدخل فيه العالم إلى قرن هجري جديد هو موعد ظهور المهدي. وهكذا تمترس في الحرم المكي مع أنصاره ضاربا بكل التعاليم التي تحرم القتال فيه عرض الحائط، ووراءه عدد من أصحابه.. احتل الحرم وقتل من قتل، حتى تمكنت منه القوة العسكرية السعودية، بقية القصة معروفة. المهم هنا أن الفكرة قد تمكنت منه فلم يعد لا هو ولا أحد من محازبيه يستخدم العقل الذي وهبه الله له ليتبين الحقيقة التي هي على خلاف كامل لما اعتقد. والقصة مرة أخرى تعاد ولو بشكل آخر، وهي قصة بن لادن ومحازبيه، والذي قرر أيضا أن يحارب العالم بطريقته الخاصة، دون أدنى استخدام للعقل الذي وهبه الله له.. فقط استخدمه عن طريق تسخير ما تحت يديه من أجل القيام بعدد من العمليات المسلحة، اتفق العالم على تسميتها بالإرهابية - وكانت كذلك - وهكذا لقي حتفه هو الآخر.

على الرغم من أن قصتي بن لادن وجهيمان قد وجدتا نهايتهما المقدرة، فإن موضوع تسلط فكرة على شخص يؤمن بها دون تمحيص لما يسببه للآخرين من أذى، أو ما يتناقض معها من منطق سليم، وتجنيد الناس ولو قلة خلفها بشكل أعمى، يسبب من السلبيات ما يفوق بمراحل أي إيجابيات تجنى، إن وجدت. وفي بعض الأوقات تسبب الفكرة القطعية إلى دمار النفس، كفعل الياباني الذي قتل نفسه خوفا من نهاية العالم. كل تلك الأفكار ينقصها نظام عقلاني له علاقة بما يحدث في العالم.

تنقلنا تلك القصص إلى قصة مختلفة بطلتها الدجاجة، فقد قيل إن شخصا تلبسته فكرة كونه حبة برّ، وأن الدجاجة سوف تأكله، وهي بالطبع فكرة مريضة.. أراد أهله أن يعالجوه من خلال طبيب نفسي أقنعه أخيرا بأنه رجل وليس حبة بر، فأجاب الشخص الموهوم مبتسما: نعم أنا رجل، ولكن من يقنع الدجاجة بأني لست حبة البر؟!

إلى هذه الدرجة تتلبس بعض الناس الأفكار السلبية وغير العقلانية، فمهما حاولت أن تتناقش معه فكرة ما في نقاش موضوعي وتظن في النهاية أنك قد أقنعته بفساد وجهة نظره، يلتف إليك برأي آخر مخالف وكأنك كنت تحرث في البحر!

فكرة جهيمان في تطهير العالم من الرجس من وجهة نظره، مثل فكرة بن لادن في تطهير العالم من أميركا، وهي رأس الشرور في نظره، هي كذلك مثلها مثل الأفكار التي يؤمن بها السيد أحمدي نجاد في طهران، ولكنها لا تقف عند هؤلاء.. فهنالك جيش جرار من المتحدثين والكتاب في وسائل إعلامنا الذين يرون العالم بمنظارهم الخاص، ويتعاملون مع التحيز والصور النمطية للآخر وكأنها واقع مسلم به، وليسوا على استعداد للسماع إلى وجهة النظر الأخرى، مهما كانت قيمتها. فيطرح البعض مثلا القطيعة النهائية في الوطن الواحد بين مكوناته المختلفة، بين أقباط ومسلمين، وبين سنة وشيعة، أو بقية المكونات المختلفة. وينظر إلى الموضوع ليس من باب العمل الوطني الذي يفترض أن المواطنين متساوون أمام القانون، وأن المواطنة حق للجميع، بل ينظر إلى هذا الاختلاف على أنه خلاف رباني، فمن معي هو الناجي ومن خالفني فهو الهالك، والهلاك ليس مؤجلا بل معجل. فالفتنة التي يغذيها الجهل ويستفيد منها التوظيف السياسي تسري مسرى النار في الهشيم في مجتمعاتنا العربية. ليس من العقل أن يقال بأن الأمة الإسلامية كانت في يوم ما على لون واحد، من يقول هذا فقد خرج عن جادة الصواب، ولكن كيف تفكك هذا التعصب في أجواء التحشيد السياسي والجهل التاريخي؟! الأمة كان لها اجتهادات مختلفة. جان جاك روسو له رسالة عنوانها «التسامح»، رصد فيها نهر الدماء التي جرت بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا. وبعد قرنين من الزمان لا هذا قد تغلب على ذاك، ولا ذاك قد أنهى وجود هذا.

العقل يقول لنا إن التعايش بين الاجتهادات المختلفة المذهبية والدينية إن تلبست لبوس السياسة المتقلبة دخل الناس في حروب دموية لا نهاية لها، وإن تلبست الوطن ضاع في حروب أهلية ناشطة أو مخفية.

ما يحدث في عدد من البلدان العربية اليوم هو ذاك.. استغلال بشع للخلاف العقدي المذهبي وتحويله إلى خلاف سياسي لا يبقي ولا يذر. وتضيع صيحات العقلاء في ضجة عالية من أصحاب المصالح والنيات السياسية الخبيثة.

ولكن مرة أخرى، من يقنع الدجاجة؟!

آخر الكلام..

من أجل بناء مستقبل جديد، نحتاج إلى بناء ماض جديد أيضا!