الهزيمة اسمها كاميليا

TT

لو استعرنا عنوان الرواية القصيرة التي كتبها الروائي المصري الراحل الشهير إحسان عبد القدوس بعنوان «الهزيمة كان اسمها فاطمة» والتي كتبها بعد هزيمة 1967 ليجسد المعاناة الإنسانية والاجتماعية للمليون أسرة التي هُجّرت من مدن القناة حتى لا تقع تحت رحمة القصف الإسرائيلي، من خلال شخصية فاطمة التي اضطرت إلى احتراف الدعارة، نستطيع أن نقول إن هزيمة، ليس الثورة المصرية فقط ولكن التراث المجتمعي والحضاري كله لمصر، تشخصها حالة أو قضية كاميليا المثارة منذ شهور طويلة قبل ثورة 25 يناير وتسبب احتقانا وصدامات طائفية تهدد نسيج المجتمع كله. كاميليا هنا مجرد رمز لحالة أو فيروس أخطر من السرطان على الجسم لو سمح له بالتمدد، ولم يجر محاصرته أو استئصاله، وفي حالة المجتمعات أو الدول فإن الخلاف والخصام بين مكونات المجتمع يقود عادة إلى انهيار الدولة أو تفكك المجتمع وفتح الطريق أمام التدخل الخارجي مثل تجارب كثيرة في التاريخ القديم والحديث.

قصة كاميليا، التي حسمت الجدل بظهورها على قناة تلفزيونية لتعلن أنها ليست محتجزة وما زالت على مسيحيتها وذلك بعد شهور طويلة من الجدل والإثارة، ليست مهمة في حد ذاتها، المهم هو انشغال مجتمع بقضية فردية مثل هذه لا أحد يعرف ملابساتها على وجه التحديد سوى أنها قد تكون خلافا شخصيا بين زوج وزوجة عاديين كاد أن يتسبب في إشعال حرب أهلية.

وكل قصص الصدامات الطائفية التي وقعت سواء قبل أو بعد 25 يناير في مصر تدور حول حالات شخصية وقصص تبدو في أكثرها وهمية ومجرد شائعات، وحتى لو كانت حقيقية فإن مكانها محكمة الأحوال الشخصية، كقضايا فردية، هذا لو كان العقل الجماعي لم يصبه فيروس الطائفية والخطاب المتطرف.

وهناك الكثير من الدلائل التي تدعو إلى الشك في أن المسألة ليست مجرد جهل وتطرف، وأن هناك قدرا من الاستغلال للحالة المجتمعية والرغبة في إشعال نار تأكل كل شيء، فهناك الكثير من الملابسات التي تدعو إلى الريبة في الأحداث الدامية التي وقعت في إمبابة السبت الماضي وحصدت 12 قتيلا ومئات الجرحى. اللافت في القصة كما وردت في «نيويورك تايمز» أن شخصا من مدينة في الدلتا جاء إلى الحي ليقول إن زوجته، وهي مسيحية من الحي اعتنقت الإسلام، هربت وأنها محتجزة في الكنيسة التي تعرضت إلى الأضرار، وهو ما نفته الكنيسة والشرطة، ليتلقى مئات الأهالي في المنطقة من المسلمين مكالمات هاتفية تدعوهم إلى النزول إلى الكنيسة لإنقاذ زوجة شيخ محتجزة هناك، وليتلقى المسيحيون أيضا مكالمات هاتفية تدعوهم إلى النزول لحماية الكنيسة لأن هناك حشودا من السلفيين في طريقهم إليها، المفارقة أنه في نفس القصة تلقى شخص أفرج عنه حديثا بعد سنوات من السجن قال إنه من الإسلاميين المكالمة الهاتفية ورفض النزول لأنه شك في المكالمة، وقال: لو تركنا هذا يحدث فإنه سيقضي على الثورة، وحتى السلفيون أو بعض رموزهم نفوا أية علاقة لهم بالشائعة التي ترددت. إذن من الذي يريد إثارة الفتنة، ومن الذي يقوم بإجراء الاتصالات الهاتفية لتهييج الناس؟ هذا السؤال متروك لجهات التحقيق، لكن مهما كانت مخططات إثارة الفتنة أو الفوضى ماهرة فإنها في النهاية تستغل حالة قائمة لا يمكن دفن الرؤوس في الرمال إزاءها، هذه الحالة هي تراث نما في العقدين أو الثلاثة الماضية من الخلافات والاحتكاكات الطائفية، وكرسها تنازل الدولة في بعض الأحيان عن تطبيق القانون لصالح مصالحات عرفية شكلية، وتسييس المؤسسات الدينية.

قد تكون ثورة 25 يناير فتحت الباب ليطل الخطاب الطائفي بحرية أمام الناس، لكنها لم تصنعه، فهو قائم منذ فترة وكانت أشكاله ظاهرة في المجتمع، والحل هو مواجهة المجتمع نفسه لهذا الخطاب، وقيام النخبة التي صنعت التغيير بدورها السياسي والتنويري في دحض هذه الأفكار ومحاصرتها، وإلا فإننا سنجد في كتب التاريخ بعد مئات الأعوام من يتهكم ويقول.. ودخلت مصر في اضطراب وحرب أهلية بسبب خناقة زوج وزوجة على حلة أو طاجن محشي.