ثورة دليفري!

TT

هناك من يصف حالة القلق والفزع والتوتر الحاصل الآن في كل من تونس ومصر بأنها مسألة شبيهة بالتمرد الكبير، أو كما وصفها أحد المعلقين بأنها «ردة الثورات». التحليل والشرح الأكثر رواجا لتفسير ما يحصل في البلدين هو أن خلايا وأشخاصا من النظام السابق لهم مصالح مهددة أو دمرت، وبالتالي، لن يكون من المنطق بالنسبة لهم أن يكون هناك انتقال آمن وسلس من حقبة إلى حقبة أخرى، والحل الوحيد للحيلولة دون ذلك هو إشعال نيران الفتن ونشر الفزع والخوف وسط الناس بشكل كبير.

وطبعا هذه مسألة في ظاهرها جميلة وبسيطة، لأن واقع الأمر في حالتي تونس ومصر معروف تماما فيه أين تكمن خيوط النظام القديم وأين تبدأ صورة النظام الجديد؛ ففي الحالتين، الوجوه الحاكمة الرئيسية كانت جزءا من نظام حكم لأكثر من ربع قرن في حالة تونس، وثلاثة عقود في حالة مصر، فكثير من الشخصيات التي «انضمت» للثورة كانت هي نفسها جزءا من النظام المقلوب والمثور عليه. ولذلك، هناك تفسير مهم ومثير يقال فيه إن «حدة» الإجراءات بحق بعض «رموز» النظام القديم هي كذلك لإبراز وتوضيح الطلاق بالثلاثة بين عناصر الثورة الحاكمة الآن، وأي علاقة كانت لهم بالنظام القديم وأي من رموزه، وذلك لإزالة أي شبهة ممكنة حتى ولو بدا ذلك الأمر مبالغة في الانتقام بحجة تطبيق صارم للعدالة.

أشكال مختلفة من «الردة» تأخذها في مصر وفي تونس؛ منها العنف المتزايد، والتهديد الأمني، والتطاول، والتشكيك، والاعتصام، والمطالب الفئوية، وطبعا التشدد الديني وتهديد مصالح الدولة المدنية، والتعايش السلمي، والتشكيك في قدرة وملاءة وصدقية العدل والشرطة. والآن بدأت أصابع اتهام واضحة توجه وبالاسم ضد أشخاص بعينهم تتهمهم صراحة بأنهم وراء ما يحدث، وتتكون الصورة تحت اسم «التهديد الجديد» أو «الثورة المضادة» لتولد بالتدريج تشكيكا في الثورة وأهدافها ومن يقف وراءها، خصوصا في ظل خروج تصريحات على شكل تسريبات تشير إلى نوايا حصول «انقلاب» عسكري صريح في ظل استمرار حالة الفوضى وتعليق أو تأجيل الانتخابات حتى «تستقر» الأمور وتفعيل قوانين وأنظمة «مكافحة الشغب وضبط الأمن»، وهي أسماء أكثر ملاءمة وبديلة لقانون الطوارئ الذي ولد كراهية كبيرة في نفوس العامة.

وبالتالي، لم يعد شاذا ولا غريبا أن تخرج أصوات بالكاد تترحم على فترات الاستقرار التي كانت قبل الثورة وأنهم «يفضلون» الأمن على الحرية والديمقراطية (وكأن مسألة تحقيق والحصول على الاثنين ضرب من الخيال ومن المستحيل)، وأصوات أخرى مضادة بطبيعة الحال تقول إن الحرية والكرامة تستحقان التضحية وبأي ثمن، مولدين فجوة هائلة في الرؤية والأولويات. ولكن الثورات ومطالبها والإنجاز وتحقيق الطموح والآمال ليست بالمسألة التي تتحقق عن طريق مكالمة لخدمة الغرف فتصل إلى بابك، ويكون الأمر بالتالي أشبه بـ«الديمقراطية دليفري» مثل البيتزا والبرغر! هناك مصالح تتضارب وصراعات كانت خفية في السابق، والآن ظهرت على السطح؛ سواء أكانت سياسية أم ثقافية أم اقتصادية أم حتى دينية.. كل الغاية منها، أولا وأخيرا، تحقيق التمكين لصالح الفريق الحاكم.

الشيطان في التفاصيل، فاستعيذوا منها كثيرا، لأن «الوسوسة» تعمل بشكل خطير في الأوساط الثائرة!

[email protected]