سقوط «جيرونيمو»؟!

TT

«جيرونيمو Geronimo» هو أحد أبطال السكان الأصليين للقارة الأميركية من مجموعة قبائل شيريكاوا أباتشي الذي ولد في 16 يونيو (حزيران) 1829 وحارب ضد المكسيك والولايات المتحدة الأميركية عندما استولوا على أراضي قبيلته. وبعد نضال طويل لم يجد بدا من الاستسلام في عام 1886، ولكنه مات في النهاية بعد أن سقط من على ظهر جواد وهو في سن الثمانين عام 1909.

مناسبة الحديث عن «جيرونيمو» ليست متابعة تاريخ الولايات المتحدة الأميركية أو نضال سكانها الأصليين؛ ولكن ما جرى أن اسم الرجل كان أحد الأسماء التي أطلقتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية على أسامة بن لادن وتم استخدامها في العملية التي انتهت بمصرعه. ولم يكن معروفا سبب إطلاق الاسم، وهل هو لتمجيد الرجل باعتباره مناضلا، أو لأن نهايته كانت معروفة من قبل مهما كان النضال طويلا والسنوات لا تعد وهي دائما تنتهي بانتصار الولايات المتحدة. ودفعت القضية المحامين المدافعين عن القبائل الأميركية لطرح الموضوع على مجلس الشيوخ على أساس أن إطلاق الاسم يخلق رابطة بين «بطل» قومي دافع عن أراضيه، و«إرهابي» كان عمله الدائم هو قتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في صراع ليس معلوم الأبعاد.

وبالنسبة لي، فإن الأمر لم يخل من دهشة، فساعة سقوط بن لادن كان أحد الكتب التي أقرأها قصة «ميتا أو حيا» التي ألفها أشهر من كتب عن الجاسوسية «توم كلانسي» الذي جعل عنوان كتابه مأخوذا من خطاب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي توعد فيه أسامة بن لادن بأنه سوف يتم القبض عليه «حيا أو ميتا» مهما طال الزمن، ومهما كانت التكلفة. وربما كانت من قبيل الصدفة أيضا أن الرواية كانت تعكس تحولا في فكر المخابرات المركزية الأميركية من تصورها حول وجود «جيرونيمو» في أحد كهوف تورا بورا، أو الحدود الشمالية الأفغانية الباكستانية إلى تصور وجوده في مدينة مزدحمة بالسكان وفي منطقة مألوفة يمكن الذوبان فيها. وفي الرواية كانت المدينة «لاس فيغاس» - مدينة الخطيئة والمعصية الأميركية - وبالقرب من إحدى القواعد العسكرية الأميركية. ما حدث فعلا أن بن لادن كان على بعد 56 كيلومترا من إسلام آباد وبالقرب من قاعدة عسكرية باكستانية هذه المرة.

على أي الأحوال، فإن هذه القضية من هذه الزوايا تخص الأميركيين، وما يهمنا هو أن الأمر أيضا يخصنا لأن أسامة بن لادن ادعى أولا أنه يدافع عن الإسلام، وادعى ثانيا أنه سوف يقيم الدولة الإسلامية العظمى، وعمل ثالثا على أن يقلب العالم رأسا على عقب من خلال عمليات إرهابية كان أشهرها ما جرى في مركز التجارة العالمي في نيويورك، ولكن ما لم يشتهر منها جرى معظمه على الأرض العربية حيث كان الضحايا من العرب والمسلمين وممن ليسوا عربا أو مسلمين كان بينهم وبيننا عهد للأمان وميثاق للحماية.

المدهش في قضية أسامة بن لادن أن الإعلام العربي تعامل معه كثيرا على أنها قضية أجنبية تخص الولايات المتحدة والعالم الغربي. لم يبحث أحد، أو حاول أن يفهم، الكيفية التي ينبت بها ويزدهر الإرهابيون العرب خوفا من اختلاط الأمر بين «الإرهاب» و«المقاومة» ومن ثم قرر الجميع ابتلاع الموضوع حتى ولو كان الزرقاوي وأمثاله من أتباع «الأمير» يذبحون وينسفون ويقتلون من لم يزر أميركا في حياته أو حتى اقترب من أميركي، وربما كانت كل جريمته أنه شاهد فيلما أميركيا ذات يوم.

ومنذ اليوم الأول الذي حاز فيه بن لادن الشهرة العالمية بعد التفجير الأعظم في نيويورك، كان هناك من أنكر الموضوع كله فلا كان هناك أسامة بن لادن، ولا كان هناك تنظيم لـ«القاعدة»، ولا كان هناك تنظيمات لبلاد الشام، وشمال أفريقيا، وبلاد الرافدين، وكلها كانت إما تمارس نوعا من المقاومة، أو أنها محض اختراع للدعاية الغربية. والغريب في الأمر أيضا أنه لم يكن هناك أبدا هدف محدد للرجل وجماعته رغم أنه حاز من الشهرة كواحد من أبطال الكفاح ما لم يحصل عليه أحد. فهو مثلا لم يوجه عملية واحدة تجاه إسرائيل بحيث يمكن القول إنه كان جزءا من عملية تحرير فلسطين أو إقامة الدولة الفلسطينية أو ردع إسرائيل عن بناء المستوطنات وتغيير معالم القدس. ورغم كل ما كان يذيعه – هو أو معاونه أيمن الظواهري - عن مفاسد النظم العربية فهو لم يسقط نظاما عربيا واحدا، وبدا في الواقع أن ضحاياه كانوا دائما من الشعوب، وليس النظم العربية. وساعة أن بدأت هذه النظم في السقوط الفعلي نتيجة الثورات «المليونية» لم يكن هناك مكان لأسامة بن لادن أو أي من جماعاته الشهيرة أو حتى استمعنا إلى شريط واحد يوضح مواقف الأمير الهارب مما يجري في بلاده.

ولكن ربما كان أخطر ما فعله بن لادن بالإضافة إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين، أنه لم يكن واضحا أبدا ما هو الهدف الأساسي من عملياته الإرهابية. فهل كان يتصور أن عمليات نيويورك وواشنطن سوف تسقط الاقتصاد الأميركي، ومن بعدها تسقط أميركا كدولة عظمى؟ وهل كان يتصور أن عمليات قتل ركاب المترو في لندن أو مدريد سوف توقف حركة المواصلات الغربية، وهل كان يتصور أن قتل السائحين في الأقصر أو قتل المصريين والسائحين في طابا وشرم الشيخ ودهب سوف توقف حركة السياحة في مصر، وهل كان يتصور أن مذبحة صالة زفاف في عمان سوف تمنع المواطنين من الزواج؟

وببساطة لم يكن معروفا أبدا ما هي الأهداف الاستراتيجية التي تسعى العمليات الإرهابية إلى تحقيقها؛ لأنه عندما يقع هذا الفصل بين أدوات العنف والأهداف فإننا لا نقيم أعمالا سياسية وإنما مواقف عاطفية وسيكولوجية تسعى إلى الانتقام أو شفاء الغليل أو حتى التدريب على إيقاع الأذى بالغير. وبالطبع فإن قصة أسامة بن لادن لم تصل إلى نهايتها، فأنصاره من الكثرة والانتشار بين بقاع الأرض بما يجعلهم قادرين على توجيه ضربات انتقامية. ولكن من المؤكد أن فصلا قد انتهى من تاريخ الإرهاب، وبالنسبة للدول العربية فإن في الأمر فرصة لبحث الأمر كله وبحث ما فيه من زيف ديني وأخلاقي وسياسي واستراتيجي. ففي ظل الثورات العربية الكثيرة، وانتشار الاعتقاد أن الأحوال لا ينبغي أن تبقى على حالها، فإن طرق التغيير والتحرير أيضا ربما تحتاج إلى مراجعة مرة أخرى لأن هناك طرقا تسبب العار، وأخرى تمنح الفخار.