فلاسفة فرنسا والانتفاضات العربية

TT

لا يكفي أن نعرف ماذا تقوله العين الداخلية عن هذه الانتفاضات الربيعية التي فاجأت العالم وما كان ينبغي أن تفاجئ أحدا. وإنما ينبغي أن نعرف ماذا تقوله العين الخارجية التي تراقب الأمور عن كثب: أقصد عين الفلاسفة والمثقفين الفرنسيين والغربيين عموما. فالعين الخارجية قد ترى أشياء لا تراها العين الداخلية بفضل المسافة التي تستطيع اتخاذها عن الحدث، وكذلك الحرية. كثرة القرب والانخراط قد تعمي الرؤيا ولكن كثرة الابتعاد أيضا. فلنحاول أن نكون بين بين: لا بعيدين جدا ولا قريبين جدا. خير الأمور أوسطها.

يرى الفيلسوف إدغار موران أن هذه الانتفاضات العفوية الصاعدة من الأعماق بددت الصورة السائدة عن العرب في أوروبا والعالم كله. وربما كانت تكمن هنا ميزتها الأساسية الكبرى. لقد بددت الظلمات العقلية التي كانت تخيم على العالم العربي وتدينه بأن يبقى إما تحت بوط الديكتاتوريات البوليسية - العسكرية العلمانية قليلا أو كثيرا، وإما تحت هيمنة النظام الثيوقراطي الأصولي المتخلف على الطريقة الطالبانية أو الإيرانية. ولكن انفجار الانتفاضات العربية في هذا الربيع الجميل على يد الشبيبة المطالبة بالحرية والكرامة والتقزز من فساد الطغاة وحاشيتهم أثبت لنا أن حب الديمقراطية ليس حكرا على الشعوب الغربية وإنما هو كوني يخص كل الشعوب. لقد اكتشفنا أن العرب مثلنا ونحن مثل العرب! رغم كل الاختلافات التاريخية والثقافية. الكلام دائما لإدغار موران. ونحن نشكره لأنه يضعنا على نفس المستوى مع الشعوب الأوروبية المتحضرة. وهذا يعني أن نزعات الاستعلاء العنصرية قد انتهت، على الأقل لدى مفكرين مستنيرين من أمثاله. ويعترف موران بأن هذه الموجة الديمقراطية الهائلة ليست مدينة بشيء لحكام الغرب الذين فعلوا المستحيل لدعم الطغاة العرب. ولكنها مدينة في كل شيء للفكر التنويري الأوروبي الذي اخترع فكرة الديمقراطية والمواطنية بالمعنى الحديث للكلمة. وهنا وجه المفارقة والتناقض بين معظم حكام الغرب الحاليين والفلسفة الإنسانية والتنويرية التي ترعرعت في الغرب ذاته. ولهذا السبب يتحدث مفكر مهم آخر عن خيانة التنوير في الغرب أو من قبل الغرب. وقد ناقشنا هذه المسألة على هامش مهرجان الجنادرية الأخير. هذا المفكر الذي يجدد النظرية التنويرية في فرنسا حاليا أهم من إدغار موران في رأيي. إنه المفكر جان كلود غيبو صاحب كتاب خيانة التنوير بالذات، هذا بالإضافة إلى كتاب آخر مهم جدا هو: على مشارف عالم جديد. ففي رأيه نحن نشهد حاليا طفرة معرفية لا تقل أهمية وخطورة عن تلك التي شهدتها أوروبا عندما انتقلت من العصور الوسطى إلى عصر النهضة والعصور الحديثة. ولكن رفقا بنا أيها السادة! فنحن لم نخرج بعد من ظلمات العصور الوسطى لكي ندخل في هذا العالم الجديد المدوخ الذي تتحدثون عنه! كم أشعر بالإحباط عندما أدرك حجم تقدمهم وتأخرنا! كم أشعر بالرعب وأخاف من عدم القدرة على اللحاق بهم في أي يوم من الأيام. ولكن سرعان ما يعود لي الأمل من جديد وأقول: نحن شعوب شابة، شعوب جديدة لم تدخل التاريخ بعد. وهم شعوب شائخة، هرمة، دخلته وشبعت دخولا حتى ملت من كل شيء. هم ابتدأوا ثوراتهم الديمقراطية قبل مائتي سنة ونحن بالكاد نبتدئها اليوم وندفع ثمنها باهظا. ولكن المستقبل لنا، أمامنا. رغم كل هذا التفاؤل بالانتفاضات العربية فإن بعض الغيوم ابتدأت تلوح في الأفق. وأخطرها من دون شك دخول العناصر الطائفية الظلامية على الخط ومحاولتها حرف الانتفاضات عن مسارها الوطني الصحيح. يضاف إلى ذلك أن الطريق لا يزال وعرا طويلا: أي الطريق الفاصل بين الحلم الديمقراطي وتحقيق هذا الحلم على أرض الواقع. ليس من السهل أن ينتقل المرء من حالة الرعية إلى حالة المواطنية، من حالة العبودية إلى حالة الحرية. لقد كلف ذلك فرنسا مائة سنة على الأقل حتى بعد الثورة الكبرى. نقول ذلك وبخاصة أن التاريخ العربي منذ الأمويين وحتى يومنا هذا يلخصه بيت واحد لأبي العلاء المعري:

تلوا باطلا وجلوا صارما

وقالوا صدقنا فقلنا نعم!

هنا تكمن جذور الاستبداد «المشرشة» في أعماق التاريخ العربي والنفسية العربية. هل يمكن لشعب استبطن الاستبداد أو الخنوع للاستبداد على مدار ألف وثلاثمائة سنة متواصلة أن يتذوق طعم الحرية؟ ألم يصبح الخنوع جزءا لا يتجزأ من طبيعته الداخلية والنفسية؟ كيف يمكن أن تنفصل عن شيء لازمك طيلة كل هذه الفترة الطويلة؟ نقول ذلك، وخاصة أن هذا الخنوع خلعت عليه المشروعية اللاهوتية من قبل الفقهاء والهيبة الدينية العليا. وبالتالي فنحن أمام معضلتين مترابطتين: معضلة التحرر السياسي، ومعضلة التحرر اللاهوتي وإحلال المشروعية الديمقراطية الأفقية محل المشروعية اللاهوتية العمودية أو النازلة من فوق إلى تحت (حاكمية المودودي أو ولاية الفقيه للخميني). يضاف إلى ذلك كله تشكيل دولة مدنية لأول مرة في تاريخنا: أي دولة غير ثيوقراطية، دولة يتسع صدرها للجميع دون أي تمييز في العرق والدين والمذهب والقبيلة والعشيرة.. من يتجرأ على القول بأن ذلك سيتحقق بين عشية وضحاها، اللهم إلا إذا كان ديماغوغيا، مزاودا؟ انظروا ما يحدث في مصر من عودة مقلقة للإخوان والسلفيين.. ولذلك اسمحوا لي أن أقول لكم ما قاله تشرشل للشعب الإنجليزي إبان الحرب العالمية الثانية:لا أعدكم إلا بالمزيد من العرق والجهد المضني والدماء والدموع! وهذا يعني أن طريق الحرية والديمقراطية ليس معبدا ولا مزروعا بالرياحين والورود.. لا ريب في أن الشعوب العربية سائرة نحو الحرية، ولكن بعد أن يتفكك النظام الطائفي القديم بأسره وتدفع الثمن عدا ونقدا..الحرية، كالحبيبة، لا تعطي نفسها بسهولة. وأحيانا يكون مهرها غاليا جدا وتكاد تلعن حالك لأنك وقعت في حبها غصبا عنك! أقول ذلك وأنا أتذكر المعري مرة أخرى وبه أختتم:

فيا دارها بالحزن إن مزارها

قريب ولكن دون ذلك أهوال