تركيا ستعيد ترتيب أولوياتها

TT

في الوقت الذي كانت فيه حكومة العدالة والتنمية تصدر تعليماتها للهلال الأحمر التركي للشروع في نصب الخيم على الحدود التركية - السورية لاستقبال عشرات النازحين الخائفين من تردي الأوضاع، كان رجب طيب أردوغان يردد أن «الرئيس السوري وعد بإطلاق حملة الإصلاحات والشروع في تنفيذها على الأرض، لكني لا أعرف ما إذا كان هناك عائق في مكان ما، هو وعد برفع حالة الطوارئ لكن الممارسات على الأرض تقول غير ذلك، نحن لا نريد أن نرى حماة أخرى».

أنقرة التي ألغت تأشيرات الدخول مع سوريا قلقة من أن ينتقل الآلاف إلى مدنها الحدودية، ليس كسياح هذه المرة يحضرون لصرف العملات الصعبة في الفنادق والمتاجر والأسواق؛ بل كهاربين من عنف المواجهات التي قد تطول، وقلقة أيضا من أن لا تأخذ القيادة السورية بما يقوله داود أوغلو إلى «أفراد الأسرة الواحدة» حول ضرورة الإسراع في تطبيق الإجراءات العملية الكفيلة بوقف تطويق المدن وإراقة الدماء وتوسيع رقعة الاعتقالات.

اختيار أنقرة لرئيس جهاز المخابرات التركية، هاقان فيدان، ليكون الوسيط في نقل الرسائل، يعني أن ما يقوله الأتراك هذه المرة على علاقة مباشرة بحجم المخاطر والتهديدات التي لا تتربص بسوريا وحدها بل بتركيا أيضا، ومن خلال انفجار أزمات وملفات تعني مباشرة البلدين ويحتل الموضوع الكردي رأس القائمة فيها.

سوريا لم تقترب بعد من خط اللاعودة، وخارطة الطريق التركية ما زالت مطروحة، لكن الانتظار التركي لن يدوم طويلا. فالضغوطات اليومية التي تتعرض لها حكومة رجب طيب أردوغان - المقبلة على انتخابات عامة بعد 40 يوما - من قبل قواعدها الإسلامية السنية الواسعة وإعلامها اليساري المعارض، إلى جانب انتقادات وتحذيرات شركائها الغربيين في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، هذه كلها ستقودها إلى تجرع المر حتى لا تكون أمام قبول الأمر منه إذا ما أجبرت على ذلك. الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها بعد الآن هي أن أنقرة في حالة استنفار شامل، وهي دخلت بقوة على خط الأزمة السورية لأنها لا تريد أن تعيش السيناريو الليبي على حدودها الجنوبية، وهي ستقف إلى جانب دمشق حتى النهاية لمنع التدخل الخارجي في مسار الأزمة، لكن مفتاح الحل، كما ترى، يبقى بيد القيادة السورية نفسها لتتحرك باتجاه أو بآخر لحماية الإنجازات الكبيرة التي تحققت في مسار العلاقات بين البلدين.

بصورة أوضح أنقرة، إذا ما استمرت الأزمة السورية على هذا النحو، ستجد نفسها أمام خيارين، ثالثهما هو المستحيل: إما الاستمرار في الوقوف إلى جانب قيادة الرئيس الأسد، الشريك الاستراتيجي القديم، والدفاع عنه والمراهنة على قدرته في إخراج البلاد من هذه الورطة، أو ترجيح خيار التغيير الذي تصر عليه المعارضة السورية التي بدأت تستقطب القواعد والجماهير والتعاطف الغربي يوما بعد آخر. هي كانت ترجح من خلال حملاتها السياسية الأخيرة في استقبال رموز المعارضة السورية إقناع الجانبين بالتخلي عن لغة التصلب والمواجهة، لكنها لن تتردد في إعطاء الأولوية لسوريا الدولة كجارة إقليمية آمنة ومستقرة؛ حتى ولو كان ذلك على حساب خيار القيادات والأسماء.

إنقاذ سوريا كان بالنسبة لأنقرة وحتى الأمس القريب إنقاذ الحليف والشريك، الرئيس السوري نفسه، من هذه الورطة، لكن التردد والمماطلة وإطالة المواجهات ستدفع القيادة التركية لتبني خيار الدفاع عن مصالحها وحساباتها الإقليمية إذا ما شعرت أنها عرضة للخطر.

التلاعب بأحجار القلاع التي بناها الرئيس السوري حافظ الأسد في أواخر الستينات مخاطرة كبيرة بالنسبة للكثيرين داخل سوريا وخارجها، لكن دقائق الوقت الضائع تقترب من نهايتها في موضوع الأزمة السورية والمواجهة لا بد أن تحسم سلميا وبأسرع ما يكون عبر مرحلة انتقالية لا بد منها تقطع الطريق على جبل الثلج العائم المتقدم نحو البلدين، الذي يكفي الغوص تحت الماء لاكتشاف حجم المخاطر والتهديدات التي يحملها؛ كما ترى أنقرة الصورة من الخارج.

سوريا وتركيا ينتظرهما المزيد من الأيام الصعبة والقرار الأول هو بيد القيادة السورية نفسها التي يحاول البعض من الداخل والخارج تحذيرها من الفخ المنصوب وخطط التآمر والتحريض المدروس والمبرمج ضد سوريا، بينما تصر أنقرة على أولويات بدائل الإصلاح والتغيير الحقيقي، فهي لا تريد العودة إلى رهان الإبقاء على آلاف الألغام المفخخة على حدودها الواسعة المشتركة مع سوريا والتفريط في كل ما أسست له الدولتان في السنوات الأخيرة.