فلول الأصولية!

TT

هناك رغبة ملحة في الأزمنة الثورية في تقديم التجربة في ثوب مقدس وبلغة تطهرية مثالية تحاول أن تصف كل الأزمات وترحلها إلى المرحلة السابقة أو تدسها في تراب الأرض الجديدة المحررة بحيث لا يحق لأحد أن ينتقد أو يشير بإصبع الاتهام إلى مكامن الخلل وإلا كان «فلوليا» ومن «الثورة المضادة» في إشارات سلبية جدا إلى تسلط خطاب الثورة وتحوله إن لم يتم تداركه بمفاعيل نقدية جادة إلى خطاب سلطة مستبد يختلف في الشكل فقط ويكاد ينطلق من نفس مكانيزمات منطق المستبد.

هناك الكثير من المقالات كتبت عن الحادثة البشعة لكنيسة العذراء في حي إمبابة الحي الأكثر جذبا ولفتا للباحثين الاجتماعيين عادة بما يمثله من تناقضات الحالة المصرية وطبقاتها حيث التداخل الديني والاثني معجون بخلفيات ثقافية واقتصادية معقدة، ليس المهم التوقف عند التفاصيل والدخول كمحكم في سجال الأقباط والسلفيين أو اصطياد باقي التيارات الإسلامية والسياسية للحدث لدعم أجندتها وتصوير المشكلة على أن كائنا قادما من الفضاء هبط بخطاب سلفي وأسلحة سحرية لتضليل العامة يجب على الجميع التكاتف لمحاربته باعتباره العدو الأول، المهم هنا هو ما وراء تلك التفاصيل من مدلولات سياسية تعين على رسم صورة كلية لما يجري دون الغرق في تفاصيل معركة طائفية كانت وما زالت وستظل بغض النظر عن النظام السياسي ما دامت تملك أسباب وجودها وحياتها وعافيتها.

بداية يمكن القول إن هناك خلطا كبيرا في قراءة المشهد الديني في المنطقة بكل تنويعاتها، هذا الخلط يمارسه جميع الدول الغربية التي تنحاز لطرف إسلامي مسيس دون آخر باعتباره ناضجا في التجربة السياسية والمشاركة، وبالتالي جهوزيته لممارسة الديمقراطية بديلا عن الأنظمة المستبدة، هكذا ببساطة وتبسيط شديدين، تمارسه أيضا جماعات الإسلام السياسي عن وعي فهي تحاول أن تقدم نفسها نموذجا للاعتدال والعقلانية في حين أن تلك الرغبة الملحة في الإحلال والظهور كبديل يقتضي إقصاء الآخرين دون أي اعتبار لحجمهم أو ثقلهم في الشارع أو حتى قدرتهم على التجييش بأقوى سلاح وأنجعه وهو الخطاب الديني في شكله الشعبي والعفوي والذي يتنازعه عادة تياران السلفية الإحيائية والتصوف، وهما وإن ظهرا متضادين على مستوى المفاهيم والبنى والخطاب فإن آليات العمل وقدرتها على الوصول إلى المواطن البسيط أسهل بكثير من قدرة تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها «الإخوان المسلمون» الجماعة الأم على الوصول لهذه الشرائح لأسباب كثيرة لا تسعها هذه العجالة لكن من أبرزها تحول الجماعة إلى جماعة نخبوية بحكم استقطابها للكوادر القادرة على صناعة الفرق في العمل السياسي والحزبي وتركيزها على شريحة الشباب كما أن هذا الهيام بالسياسة والاشتغال بها بحكم تحولها إلى تيار المعارضة الأقوى والأبرز ليس في مصر وحدها بل في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي جعلها قابلة للاختراق السلفي بكافة تنويعاته السلفية المحافظة والجهادية والعلمية وحتى الإحيائية ذات المنزع الشعبي، وهو الأمر الذي حذر منه منشقون عن «الإخوان» قديما بما سموه موجة «تسليف» الجماعة أي سلفنتها أو ترييفها (من الريف) باعتبار أن نجاح الخطاب السلفي في الأرياف من المحافظات المصرية وفي الطبقات الشعبية كان الأبرز.

ورغم كل ما سبق أعتقد أن إعادة «الإخوان» للمشهد لم يكن نتيجة فاعلية الجماعة أو حيويتها بل لأنها استطاعت الوصول إلى المجتمع الدولي قبل غيرها، لا سيما أن ذلك المجتمع بمراكزه وصناع قراره وقواه المختلفة يعاني من ذات الارتباك في فهم الظاهرة الدينية السنية في شكلها السلفي العريض حيث يستند إلى مقولات وقوالب جاهزة تضع الجميع في سلة التطرف بينما تستثني «الإخوان» ومثيلاتها حتى قبل أن تقتنع بقدرتها على تشكيل بديل، هذه الشرعية الدولية للجماعة قابلها ترهل شديد في الداخل يمكن رصده منذ وقت مبكر، حيث أشبهت هذه التيارات النظام الذي ناضلت ضده على مدى عقود طويلة فلم يغيب مرشديها عن رأس هرمها سوى الموت وحده - في أغلب الأحيان - وانشق عنها الكثير من الكوادر النوعية والهامة من الفاعلين في العمل السياسي، عدا أن الخطاب السلفي نفسه في البلدان التي لا يستمد شرعيته فيها من النظام بدأت تخرج مجموعات ناضجة سياسيا وأمينة لمقولات وأفكار الخطاب السلفي العامة في محاولة لتبيئتها في السياق العام، وهنا من المهم التشديد على ضرورة قراءة الظواهر الدينية ليس في سياقها التاريخي فقط بل والجغرافي وطريقة فعلها وتفاعلها ليس مع المجتمع بقدر السلطة السياسية القادرة على تبني ونبذ خطابات دينية باعتبارها الورقة الأكثر نجاحا للوصول إلى المجتمع بشرائحه المختلفة.

هناك ندم غربي لا يمكن أن تخطئه العين على الفترة الحرجة السابقة في العلاقة بين الغرب والحركات الإسلاموية، بل ذهب بعض الباحثين إلى أن خيار التحالف مع الخطاب الإسلاموي، الذي يرفع الخيار السلمي، أفضل من التحالف مع تيارات ذات نزعة مدنية أو ليبرالية ممن لا يشكلون أي عمق اجتماعي أو تأثير على الواقع لكن هذا الندم محفوف بمخاطر الجهل بتركيبة المجتمعات العربية والإسلامية وخارطتها الدينية الدقيقة والتحولات العميقة التي طالتها مع ظهور الإحيائية السلفية ثم باقي تنويعات السلفية وتلويناتها السياسية والاجتماعية والفكرية.

هذه الرسالة يتم التعامل معها بإيجابية شديدة من الحمائم في جماعات الإسلام السياسي من المشاهير والنجوم الذين يرون ضرورة إيجاد آفاق أرحب للمرونة السياسية، في حين أن الصقور عادة تصطف حول الإرث العدائي العريض الذي يشعر بأنه مستهدف من القوى الغربية عبر اللعب على ورقة الإصلاح السياسي؛ هذا الخلاف بين الصقور والحمائم يبدو على أشده في تجربة ما بعد الثورة وهو يشي بانقسامات شديدة في المشهد الإسلاموي في مصر كما غيرها.

مستقبل الاستراتيجية الغربية الجديدة يتجه إلى محاولة خلق علاقة جديدة مع التيارات الأكثر شهرة وتاريخا في العمل السياسي شريطة تقليم أظافرها الثورية، معتبرة أن نجاح ذلك ممكن، وكل الداعمين لهذا الاتجاه يستدلون على نجاح هذه العلاقة بالتجربة التركية ويصفونها بالرائدة، متناسين أن الحركة الإسلامية التركية انسلخت من جلدها الثوري في حين أن ذلك يبدو صعب المنال جدا لحركات الإسلام السياسي التي اعتمدت مشروعيتها ومبرر كينونيتها على خطاب الدعوة والتغيير، الذي يعتبر مفهوم «الخلافة» وممانعة «الغرب» إحدى أهم مفردات بنيته الثقافية التي يستطيع من خلالها حشد الجماهير الغاضبة والمحتقنة ضد الغرب بسبب الأوضاع السياسية في المنطقة.

الأزمة الحقيقية التي لا يلتفت لها الغرب في تعامله مع ظاهرة معقدة ومتنوعة كالخطاب الثقافي الديني منه في العالم الإسلام هو ذلك هذا الجرح النرجسي الغائر الذي تعددت مظاهره وتشعبت نتائجه حتى غدا من التعقيد والتشابك ما يجعل حصر مسبباته ضربا من التبسيط والسذاجة في التحليل، هذا الجرح النرجسي ساهم في إنتاج وعي زائف يعلق مشكلاتنا على مشجب الآخر بل ويجعلها حصريا نتائج طبيعية لمؤامرات معقدة، ما يستلزم البحث عن مخلص تختلف أوصافه من طرح لآخر، فهو عند الإسلاميين «السلفيين» عودة سحرية إلى الماضي تتم من خلال الانطلاق من القاعدة الشعبية للمجتمع وصولا إلى الأعلى من خلال مقولات سلوكية تطهرية تبعث على المزيد من الاغتراب والانغماس في الجراح النرجسية، بينما هي عند الحركيين منهم إعادة إنتاج فكرة المخلص الطوباوية، بإعطائها بعدا واقعيا بدأت هذه الصرعة في التصالح مع ثقافة التعددية، ممثلة في الديمقراطية، الغول الذي كان يشار إليه دوما بأصابع التجريم والإدانة.

بيد أن هذا التحول غير حقيقي وزائف، بدليل أن التسامح والمساواة والتعددية الثقافية والإيمان بوجود الآخر وأحقيته بالمشاركة مفقود في أجنحة هذه التيارات الداخلية، وإطلالة يسيرة على منجزه الثقافي والفكري، ولو بشكل عشوائي، كفيلة باستخراج الفرق الضخم بين الاستخدام المصلحي والنفعي لتلك المفاهيم، ألم يقل ذات أحد فلاسفة اليسار المصري تعليقا على الغرب المتعالي علينا حتى في فهمنا: مشكلتهم أنهم ينصتون جيدا للقاعدة!