بن لادن لم يمت

TT

ينشغل المحللون الغربيون اليوم بدراسة مواصفات ما بات يطلق عليه اسم «القاعدة 2»، أي النسخة الجديدة لتنظيم القاعدة، كما يفترض أن يتطور بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، فالتنظيم في الأصل تأسس عام 1988، أي تبعا لمنظومة فكرية تعود إلى القرن العشرين، وعرف مراحل مختلفة في التوجهات والأهداف، وأجبر أكبر قوة في العالم على خوض حروب أنهكتها، وبحثت عنه عشر سنوات متواصلة قبل أن تعثر عليه، ثم لم تعرف ما تفعل بجثته لتتخلص منها فرمتها في اليم وجعلتها وليمة لأسماك البحر.

لا بد أن الولايات المتحدة تدرك جيدا أن الفكر الجهادي ليس من اختراع بن لادن، وإن كان هو من أعطاه زخما في وقت كان يتحضر فيه العالم العربي لعملية سلام تاريخية مع إسرائيل، فاختار هو أن يحارب الاتحاد السوفياتي. وبالتالي فالجهادية ليست صناعة لادنية، كما أنها لم تغرق معه جثة هامدة في البحر. لذلك قال مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الإرهاب جون برنان إن «التخلص من زعيم (القاعدة) هو خطوة أولى باتجاه تفكيك وشرذمة أتباعه»، ليرد عليه محلل أميركي بالقول إن أصحاب هذا الفكر الذين باتوا ينتشرون من الجزائر، مرورا بالشيشان، وصولا إلى الصومال وإندونيسيا، عدا مجموعاتهم المتمركزة في أوروبا وأميركا، قد يضعفون كتنظيم، لكن الفكر بحد ذاته قد يعود ويولد بحلة أكثر جاذبية وإغراء.

والمحلل الأميركي لم يضرب في الرمل، كما أنه لم يأتِ بجديد، فكلنا يعلم أن التنظيمات تموت والأفكار تبقى. وأن تتسبب نظرية ما في مقتل آلاف الأبرياء لا يعني بالضرورة انفضاض المعجبين عنها، فالهتلرية الجديدة موجودة، وكذلك الستالينية حية ترزق، فالفكرة قد تهمد أو تتخفى ثم تظهر بلبوس جديدة بعد أن تشذب أطرافها أو تدور زواياها، وربما ازدادت حدة وشبقا، لا شيء يمنع. وثمة ما يدخل الثلاجة، لأن الظروف غير مواتية لاستهلاكه، أو يستكين في مكان أمين حتى يتحين الظروف ليظهر. وما نشهده اليوم من نقاش في مصر وغيرها من الدول العربية الثائرة، التي استعادت حرية القول والاختلاف، يعيدنا إلى بداية القرن الماضي حيث احتدم الجدال حول الأنفع للأمة، هل هي السلفية أم تراه التوفيق بين الإسلام والحداثة، أم أن الأجدى هو التخلص من القديم ومعانقة الحديث دون التفات إلى الأسلاف؟ الأنظمة العسكرية القمعية التي استولت على السلطة منذ منتصف القرن الماضي، انتصرت لنفسها ولعشقها للكراسي، وجعلت الكلام عن شكل الدولة، ونظام الحكم، مجرد نظريات افتراضية مجانية حتى قبل اختراع العالم الافتراضي وشبكته العنكبوتية.

ما يحدث في مصر اليوم من جدل عفي حول الدولة المدنية أو الدينية، ليس سوى استعادة لذاك الصراع الفكري الذي أغنى كتاب كبار رواد النهضة، وولد لنا «طبائع الاستبداد» و«الإسلام بين العلم والمدنية» وصولا إلى كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. أما السلفية بشقها الجهادي فقد اختارت، بعد أن سدت في وجهها السبل، التمرد الميداني، ليس على الأنظمة العربية فقط، وإنما على الغرب أيضا شريك هذه الأنظمة وداعمها، بحسب رأيهم.

ويقال اليوم إن أمام الثورات التي نجحت في تغيير النظم السابقة، ثلاثة نماذج حية، «إيران 1» بنظامها الإسلامي المتطرف، «تركيا 1» بنموذجها العلماني، أو «تركيا 2» بصيغتها الإسلامية الحديثة. وإن كانت الغالبية معجبة بالخيار الثالث إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة. «التاريخ لا يحب الخطوط المستقيمة»، بحسب الباحث في قضايا الديمقراطية تشارلز تيللي، وبالتالي علينا أن ننتظر مخاضات عسيرة وطويلة، وسقطات وإخفاقات، قبل أن يجد المنتفضون بر الأمان لطموحاتهم، فقد دامت الثورة الفرنسية عشر سنوات، حتى قيل إنها ثورات كثيرة، ابتلعت خلالها أبناءها كما ابتلعت أعداءها، ولم تستقم الأمور حتى أقام نابليون إمبراطوريته الشهيرة، إلا أن الدولة عادت وانهارت واحتلت ألمانيا فرنسا، قبل أن نراها بحلتها البهية التي نعرفها.

المسارعة بالحكم على الثورات العربية بالفشل لأن إسلاميين ظهروا هنا أو سلفيين أطلقوا شعارات هناك، وثمة من ينادي بالدولة الدينية، هو انقضاض على رغبات الشعوب العربية في خوض تجربتها بتطرفها واعتدالها، كما بجنونها وعقلانيتها، تماما مثل بقية شعوب الأرض. الكلام عن عدم جدارة الشعب المصري بالحرية، لأن فتنة مذهبية تطل برأسها، دفنته أخبار رسمية تؤكد تورط النظام السابق في إثارة الناس وحقنهم. أما ما ادعاه الرئيس الليبي معمر القذافي من وجود لـ«القاعدة»، لم يثبت له أصل أو فصل، والكلام في سوريا حول السلفيين لا يبدو على الإطلاق بأنه بالخطورة التي يتمناها البعض. وبالتالي فالثورات المضادة باتت منظمة وممنهجة، ولها امتدادات داخلية وخارجية، وهو ما يهدد الحوار بين أصحاب الرؤية الدينية والمدنية الذي يجب أن يستمر بعد تأجيل دام مائة سنة، رغم ضيق صدر البعض به، وهو ما دفعنا ثمنه إرهابا وتطرفا، وهروبا للمتمردين في الكهوف والجبال، وتنفيسا لجنونهم بالإجهاز على المدنيين حيثما استطاعوا.

التآمر على بذور الديمقراطية التي بالكاد بدأت تترعرع في بعض البلدان العربية، لن يكون إلا لصالح «نبتة الجهاد التي طالما نمت ونضجت متشبعة بالدماء النقية»، كما وصفها بيان طالبان في رثائه لابن لادن.

محلل أميركي يدعى موعيز نعيم يعيب على الإدارة الأميركية تخبطها في رواية الطريقة التي تم بها قتل بن لادن، ويتهمها بأنها تسعى جاهدة لتشويه صورته دون أن تتمكن من ذلك بسبب تضارب روايات المسؤولين، مرة بالقول إنه استخدم امرأة درعا بشرية ليحتمي بها قبيل قتلة، ومرة أخرى بوصف منزله المتواضع والبدائي بأنه فخم وأشبه بالقصر، لتعود صور وروايات أخرى وتكذب ما سبقها.

يبقى أن النظرة الأمنية للعالم لا تزال تطغى على ما عداها، بينما الفكر حتى لو كان دمويا وشرسا له قدرة زئبقية على الانزلاق والتدحرج كما الانتشار وخداع كل ما هو بوليسي ومخابراتي. هذا ما بات يفهمه بعض المحللين الغربيين، لحسن الحظ، لكن تأثيرهم لا يزال ضيقا وقدرتهم على التأثير محدودة. أما في العالم العربي فهناك من لا يزالون يعتقدون أن إشهار «بعبع» الإسلاميين، بمعتدليهم ومتطرفيهم، هو الحل السحري لكبح جماح الثائرين وتخويفهم من التغيير، وهذا بالتأكيد خطير.