يبيعون الكلام في حارة الثرثارين

TT

منذ نحو الشهر، تسربت وثيقة قيل إنها للمخابرات السورية، تضمنت خطة عمل لمواجهة الاحتجاجات المتصاعدة في الشارع السوري ضد النظام. ولكن كون الوثيقة مجرد صفحات مخطوطة لا يوجد ما يدلل على مرجعيتها، فلم يصدقها الكثيرون. ولكن اللافت للانتباه أنه منذ الساعات الأولى لتسريب الوثيقة على «فيس بوك» كان النظام السوري ينفذ فعليا بعض بنود الخطة المرصودة في الوثيقة! كاتهام شخصيات سعودية ولبنانية بتمويل المظاهرات في سوريا لبث الفوضى، مما يجعل المرء حائرا؛ إما أن الوثيقة بالفعل صنيعة المخابرات السورية أو أن من قام بتأليفها يقرأ أفكار الأجهزة الأمنية السورية قراءة دقيقة.

كان من ضمن بنود الخطة المشبوهة اتهام شخصية سعودية بارزة وهي الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز بتمويل الثائرين. وربما كان سبب اختيار الأمير بندر كونه الدبلوماسي العربي الأكثر شهرة، وصاحب العلاقات النافذة في واشنطن، وأحد أهم صنّاع السياسة الخارجية السعودية، وكان قد توارى لمدة عامين عن الحياة العامة لأسباب صحية منذ خروجه من السفارة السعودية في واشنطن وحتى ظهوره أول العام الحالي في إدارة موقعه كأمين لمجلس الأمن الوطني السعودي. هذه الشخصية التي عاشت حياة حافلة بالأحداث والتجاذبات السياسية جزء منها كان في لبنان، وعادت في وقت مأزوم في الشرق الأوسط، من السهل جدا أن تكون هدفا للشائعات. ولذا لم يكن ورود اسم الأمير بندر في الوثيقة المزعومة مفاجأة، خاصة مع حصول سوابق ماضية زجت باسمه في أحداث مرتبطة بلبنان. ولكن ما حصل في الواقع أن الشخصية التي استهدفت بالاتهام لم تكن الأمير بندر بن سلطان كما تقول الخطة، بل الأمير تركي بن عبد العزيز، الأخ غير الشقيق للعاهل السعودي، الذي عاد إلى الصورة العامة السعودية بعد غياب سنوات إقامته الطويلة في القاهرة.

رئيس حزب التوحيد العربي، اللبناني وئام وهاب، الذي تعرض سابقا لحجاب المرأة السعودية بلفظ غير لائق، ثم عاد واعتذر، هو الذي اتهم الأمير تركي بن عبد العزيز بدفع شيكات لعضو تكتل المستقبل في البرلمان اللبناني النائب جميل الجراح لتمويل المحتجين السوريين بالأسلحة، ثم اعتذر مرة أخرى عن هذه التهمة واعترف أنها غير صحيحة وأن الشيكات مزورة.

ما يقوم به وئام وهاب من تنفيذ لأوامر عليا بالإساءة للسعودية أو الزج بشخصيات سعودية أو لبنانية في الشأن السوري هو ما يسميه السياسيون بـDirty work، أي العمل الذي لا يقبل أن يقوم به صاحب السلطة العليا مباشرة لأنه يخدش مظهره العام، فيوكله لمن لا يملك قيمة سياسية أو مكانة اجتماعية يقلق بشأنها.

النائب جمال الجراح، الذي اتهمته السلطات السورية بتمويل المظاهرات في سوريا نفى هذه المزاعم، وأرجع أسباب التهمة إلى موقف سعد الحريري الرافض للتدخلات الإيرانية في المنطقة العربية، فما كان من سوريا، بحسب قوله، إلا أن اتهمت كتلة المستقبل بالتدخل في الشأن السوري.

هذا رأي الجراح، وأنا أرى أنه حتى لو لم يتفوه الحريري بكلمة حيال الموقف الإيراني كانت التهمة جاهزة للتحميل والتصدير للجراح أو غيره من أعضاء كتلة المستقبل، ليس دفاعا من السوريين عن الإيرانيين ولكن محاولة لتفسير غضبة الشارع السوري أمام الرأي العام العالمي على أنها تحريض خارجي.

مشكلة النظام السوري أن أصحاب القرار فيه من الجيل القديم الذي أدار مجزرة حماة عام 82 وظن أن من السهولة أن تدار الأزمة الحالية بالطريقة القديمة نفسها؛ أي محاصرة المدينة ثم ضربها بالمدفعية، و«لا من شاف ولا من دري». الدنيا تغيرت منذ ذلك الحين، خلال هذه السنوات، وبفعل ثورة الاتصالات أصبح ابن العاشرة مراسلا صحافيا في الميدان، وحتى هذا الصغير لم يعد يصدق إلا ما تراه عيناه في الشارع، لا ما يتم نسجه آخر الليل في مقار الأجهزة الأمنية وإذاعته صباحا من فم رجل آلي يتم برمجته وشحن بطاريته ثم إطلاقه.

ولو كان ما يجري على الأرض في سوريا هو بفعل مخربين مندسين - كما تزعم الأجهزة الأمنية - فلتفتح ذراعيها وتحتضن وسائل الإعلام العالمية المحترفة لنقل هذه الحقيقة أمام العالم. هذا العالم الذي بات مختلفا عما كان عليه. وكلما أسرع قادة الأجهزة الأمنية السورية في فهم هذا الاختلاف، استطاعوا إدارة شأنهم المتوتر بحكمة أكبر.

وكما أننا لم نصدق أن الوثيقة المسربة صحيحة، واعتبرناها مجرد كلام رغم أنها متوافقة مع الواقع، فعلى المخابرات السورية أن تكف عن بيع الكلام كذلك، لأن العالم بفضل ثورة الاتصالات التي اتحدت مع ثورة الشارع، أصبح كله ثرثارين.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]