السودان: غموض يلوح في الأفق

TT

من القادم؟ هذا هو السؤال الذي يدور على ألسنة الناس في إشارة إلى تسونامي الثورات العربية. ففي أقل من ستة أشهر، كانت كل الأنظمة العسكرية والأمنية في البلدان العربية قد تمت الإطاحة بها أو سقطت في أزمات غير معروفة العواقب. وحتى الآن، تمكن نظام واحد من تجنب كارثة تسونامي، وهو نظام الجنرال عمر حسن البشير في السودان.

ويوم الاثنين الماضي، أصبح تقسيم السودان رسميا بعد بزوغ الجنوب، وعاصمته مدينة جوبا، كدولة مستقلة جديدة، وسيوضع الانفصال حيز التنفيذ الكامل في شهر يوليو (تموز). كان البشير يعلم أن انفصال الجنوب سيمكنه من تعزيز سلطته في الخرطوم وأنه، كما تفاخر في عدة مناسبات، سيظل في سدة الحكم مدى الحياة. ومع ذلك، فإن ما قد يبدو لطيفا وسهلا على الورق قد يكون مختلفا على أرض الواقع، حيث يمكن أن يؤدي التقسيم إلى ظهور واحدة من أكبر عمليات «تبادل السكان» على الإطلاق في أفريقيا.

ويوم الاثنين الماضي، أصبح نحو 1.5 مليون جنوبي يعيشون في شمال السودان «أجانب» رسميا، وعلى الجانب الآخر لا يزال وضع نحو 300 ألف شمالي في الجنوب غير واضح. كما يمكن أن تضطر أعداد كبيرة من الناس في ما يسمى «المناطق الحدودية» للتحرك في أي من الاتجاهين، وقد تتكلف عملية «تبادل السكان» وإعادة التوطين مليارات الدولارات، مما سيكون له تأثير سلبي على اقتصاديات الجنوب والشمال على حد سواء. وفي أي من هذه الحالات، فبمجرد أن يعاني نظام من انكسار ما، سوف تتبعه انكسارات أخرى لا محالة. وهذا هو ما يحدث في سودان البشير، حيث يتشكل الانكسار الأول داخل النخبة الحاكمة بشكل دقيق الآن وأكثر من أي وقت مضى.

ويبدو أن ثلاثة فصائل، لديها استراتيجيات تنافس بعضها بعضا، آخذة في الظهور. وتستند استراتيجية الفصيل الأول إلى الأمل والخوف مناصفة. ويتمثل الأمل في أن إزالة «شوكة» الجنوب ستمكن النظام من «إنهاء» المعارضة وتوطيد قبضتها على السلطة، أما الخوف فيتمثل في أن أي محاولة للإصلاح يمكن أن تؤدي إلى نوع من الثورات التي هزت الأنظمة العربية المستبدة الأخرى. وتدعم الأجهزة الأمنية هذا الفصيل ويقوده البشير نفسه، مع اعتبار المستشار الرئاسي نافع علي نافع بمثابة «جواد حرب».

أما الفصيل الثاني، بقيادة نائب الرئيس علي عثمان طه، فيريد أن تقوم الآلة الحاكمة المتمثلة في حزب المؤتمر الوطني بتعزيز الحوار مع أحزاب المعارضة على أمل اصطفاء البعض وتحييد البعض الآخر. وعلى طريقة ميكافيلي، يخفي طه طموحات رئاسية وراء قناع زائف، فهو دائما ما يصافحك بيد، في حين تخفي اليد الأخرى سكينا وراءها. ومن الممكن أن يكون حسن الترابي، الذي تحول إلى مناوئ للنظام بعدما كان هو رأس الأفعى في النظام، على علاقة بهذا الفصيل.

أما الفصيل الثالث المدعوم من الكوادر الوسطى للحزب والذي كان حتى وقت قريب تحت قيادة صلاح قوش، فينشد استجابة أقل تشاؤما لـ«تسونامي الثورات العربية»، ويضرب هذا الفصيل على وتر فكرة «الجمهورية الثانية» التي من شأنها أن تعتمد على الدعم الشعبي بصورة أكبر من اعتمادها على الدعم العسكري.

أما الانكسار الثاني فله بعد جغرافي، حيث فتح تقسيم الجنوب الشهية الانفصالية في مناطق أخرى. وحتى قبل بضع سنوات، لم يلق أحد نظرة ثانية على ما يسمى بـ«المناطق الانتقالية» في أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث تحولت هذه المناطق، بعد اكتشاف احتياطيات نفطية كبيرة، إلى مناطق قيمة للغاية، وهذا ما أدى بدوره إلى ظهور الجماعات الانفصالية التي تشعر بالاستياء من هيمنة حزب المؤتمر الوطني على مقاليد الأمور. وبالإضافة إلى الانفصال المتزايد في هذه المناطق، يجب ألا ننسى الحرب المستمرة في دارفور والشرق وغيرهما.

أما الانكسار الثالث فيتعلق بقضية الهوية، فمع انفصال الجنوب يدعي حزب المؤتمر الوطني أن الجزء المتبقي من البلاد يؤكد على الهوية «العربية الإسلامية»، وهو ما يعني بدوره فرض الشريعة الإسلامية بوصفها الإطار القانوني الوحيد في البلاد.

ومع ذلك، يشعر كثير من السودانيين بعدم الارتياح إزاء الطبيعة التعسفية للمخطط الذي يتجاهل التركيبة المعقدة للسودان، والتي تتكون من خليط من الهويات العربية والأفريقية والإسلامية والعلمانية.

وعلى أي حال، وضع اتفاق السلام الشامل والذي تم توقيعه في عام 2005 سلسلة من التدابير التي تهدف إلى حدوث تحول ديمقراطي خلال فترة انتقالية مدتها ست سنوات. وستنتهي هذه الفترة الانتقالية في شهر يوليو، ومع ذلك لا يوجد مكان واحد في السودان على وشك التحول الديمقراطي.

ويمكن رؤية الانكسار الرابع في هيكل الدولة السودانية والجيش السوداني. في الواقع، قد يكون الرئيس البشير نجح في حل هياكل الدولة والاستعاضة عنها بشبكة من الوظائف المسندة على أساس المحسوبية والروابط القبلية والولاء الشخصي والمصالح المشتركة المجردة.

واليوم، يعمل الكثير من المحافظين وكأنهم أمراء حرب إقطاعيون مع سيطرة اسمية إلى حد كبير من الخرطوم.

وفي الوقت نفسه، ينتشر الفساد، مدعوما جزئيا بدخل النفط، في هياكل الدولة على كل المستويات. وبالمقارنة مع بلدان أفريقية أخرى، نجد أن السودان دائما ما كان لديه إدارة نظيفة ونخبة بيروقراطية تدين بالولاء للدولة بدلا من الجماعات المبنية على المصالح على غرار المافيا. ولم ينج الجيش من غرغرينا الفساد، حيث يشعر كبار الضباط بأن البشير وشبكته من المدنيين قد خدعوهم واستولوا على نصيبهم من الغنائم.

ومن المفارقات أن التكوين الحالي يزيد من احتمال وقوع انقلاب عسكري، فمن الممكن أن يفكر كبار الضباط في الإطاحة بالبشير، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وهم خارج الصورة، حتى يتمكنوا من إعادة التأكيد على موقف الجيش المهيمن على ما تبقى من البلاد.

ووسط كل هذا، تبدو أحزاب المعارضة وكأنها في منطقة زمنية مختلفة، حيث تبدو دعوتهم إلى عقد مؤتمر لمراجعة الدستور نوعا من السريالية، فهم لا يدركون أن العلة السياسية في السودان عميقة ومعقدة جدا بحيث لا يمكن علاجها باستخدام أكليشيهات كلاسيكية.

في الواقع، قد يكون السودان بحاجة إلى معارضة جديدة بقدر ما هو بحاجة إلى نخبة حاكمة جديدة، ولا يمكن أن تأتي مثل هذه المعارضة إلا من خلال القاعدة الشعبية، كما كان ذلك جليا في التجارب التونسية والمصرية واليمنية والليبية والسورية، حيث إن قادة أحزاب المعارضة المختلفة هم رجال متقدمون في العمر ويبدو عليهم الإرهاق، وتشعر وكأنهم قطع أثرية من عصر آخر. وعلى الرغم من مرادهم النبيل واحترامهم، فإنهم غير قادرين على استيعاب الحقائق الجديدة للحياة السياسية في السودان، ناهيك عن تصور مستقبل مختلف للبلاد.