موازنة حرية الفرد وحرية الصحافة

TT

تداخلت هذا الأسبوع أحداث وتيارات تتعلق بالأركان الأساسية في أعرق ديمقراطيات العالم وأكثرها توازنا واستقرارا. وتصادف أن يكون أكثر الأسابيع أهمية في السلطة الرابعة مع غداء عمل أقامته المجموعة الصحافية البرلمانية، وهي صانع الرأي العام السياسي في المملكة المتحدة، لجيرمي هنت، وزير الثقافة والرياضة والتراث القومي والصحافة المتنوعة (وتعرفها الصحافة العربية بـ«الإعلام» وهو تعبير أحاول تجنبه قدر الإمكان). والوزارة عندما ابتكرتها حكومة المحافظين قبل عقدين سخرنا كصحافيين منها، وسميناها وزارة «الفرفشة»؛ فلا توجد في أي ديمقراطية برلمانية وزارة إعلام.

دور الوزارة تثقيفي إرشادي للتوعية بدور الرياضة أو لإقناع وزارة المالية والجمعيات الخيرية بدعم مراكز رياضية، ورفع المستوى الثقافي في المناطق الفقيرة، وتوجيه جهود أقنعت اللجنة الأولمبية الدولية باستضافة لندن لأولمبياد 2012.

مكتب الوزير هنت مشغول مع لجان برلمانية، واستشارات الاتحادات الصحافية، ووزارة الصناعة والتجارة، ولجنة الاحتكارات، والمكتب العام لتنسيق وسائل الاتصال، حول التدخل أو عدم التدخل في شراء مؤسسة «نيوز إنترناشيونال» لمجموعة أسهم شركات تلفزيون أخرى. وقد عبر عدد من المعلقين عن قلقهم من توسع قطاعات المستهلكين الإعلاميين للشركة بشكل قد يؤثر على الرأي العام.

فمؤسسة «نيوز إنترناشيونال» التي يمتلكها إمبراطور الصحافة، روبيرت ميردوخ (وليس روبرت كما يخطئ بعض الصحافيين العرب، لأنه Rupert وليس Robert) تمتلك شبكة «سكاي» التلفزيونية التي تبث عبر الستالايات والكابل، وعدد من محطات الراديو، وقرابة 20 صحيفة محلية وصحفا قومية كـ«التايمز» والـ«صنداي تايمز»، والـ«صن» و«نيوز أوف ذي وورلد»، والأخيرتان هما أكبر صحيفتين توزعان في العالم الأنغلوساكسوني.

تحذيرات وقلق المعلقين - منهم نواب برلمان - تخشى من أن احتكار ميردوخ سيقلل من المنافسة في سوق الصحافة.

صحيفة «التلغراف» المنافسة لـ«التايمز» المملوكة لميردوخ، تعرضت لغرامة من مفوضية الشكاوى الصحافية المستقلة - المكونة من عدد من المحامين ورؤساء تحرير الصحف، وبإدارة البارونة رسكوم – والتي تبحث شكاوى الناس ضد التجاوزات الصحافية، فليس في قدرة أي شخص توكيل محام ضد الصحافة.

فالمفوضية وجدت «التلغراف» مذنبة بنصب فخ بادعاء كاذب؛ بعد ادعاء اثنتين من صحافيات «التلغراف» بأنهما مواطنتان من الدائرة الانتخابية لوزير الصناعة والتجارة، فينسنت كيبل. لم تصارحاه بأنهما صحافيتان، وإنما قابلتاه من أجل شكوى محلية. أي نائب برلمان (بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه) يقابل أبناء الدائرة يوما ونصف اليوم في الأسبوع لتلقي الشكاوى وطرح المطالب في البرلمان.

استدرجت البنتان كيبل في الحديث حول صحافة ميردوخ، فقال إنه يخوض حربا ضد إمبراطورية ميردوخ. ونشرت الصحيفة الخبر.

النتيجة استبعاد اسم وزير الصناعة والتجارة من لجنة الاحتكارات في تحقيق السماح بشراء الأسهم، لأن رأيه الخاص قد يؤثر على مصداقيته في اللجنة. واشتكى كيبل للمفوضية.

وعندما ناقشنا الأمر مع وزير الثقافة لم يوجه انتقادا واحدا للصحيفة المخطئة، أو يبدي رأيا في مسألة ميردوخ.

تصادف في اليوم نفسه نظر المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ لقضية رفعها المليونير ماكس موزيلي ضد بضع صحف بريطانية، يطالب بإلزام أي صحيفة تحقق في ما يعتبر «مسألة شخصية»، بإخطار صاحب الأمر (الشخص) مسبقا بنيتها نشر التحقيق.

جماعات حريات التعبير، ومجلة «رصد حالات الرقابة الصحافية» أثارت حملة من الاحتجاج. فهذا يعني أن الأثرياء، سيكون بقدرتهم توكيل محامين لاستصدار حكم تعليق النشر (injunction)، وهو ما يكلف أتعابا نحو 60 ألف دولار، ويمكن استصداره في ساعات قليلة. يمنع الصحيفة من النشر. وهذا يمكّن مثلا سفير أي دولة من توكيل محام لاستصدار حكم بمنع الصحافة من نشر انتهاكات حقوق إنسان، أو تكميم فم مؤسسة «الشفافية الدولية»، وتمويلها تبرعات بسيطة، عن قضية دفع بلاد السفير رشوة صفقة سلاح. فقد يدعي المحامي أن الصحافة استأجرت راقصة في كباريه أو بائعة هوى واستدرجت مسؤولا للاعتراف تحت تأثير الشراب.

قضية موزيلي قبل عامين كانت تقريرا نشرته «نيوز أوف ذي وورلد» لحفلات ماجنة بطلها المليونير وبائعات هوى، وادعاء لعب تمثيلية الضرب بالسياط في معتقلات النازي.

جد المليونير الراحل، أوزوولد موزيلي، كان زعيم اتحاد الفاشيست في الثلاثينات. أتباعه، «القمصان السود»، تظاهروا مطالبين بالتحالف مع ألمانيا النازية بزعامة أدولف هتلر. وانتهى الاتحاد الفاشيست على يد مثقفي الطبقة الوسطى والاتحادات العمالية في مظاهرة كابل ستريت في شرق لندن، عندما ضربوا القمصان السود «علقة» تاريخية لم تقم لها قائمة بعدها.

موزيلي كسب القضية في محكمة إنجليزية قبل عامين، حيث حكم المحلفين بأن ما يدور بين أشخاص بالغين وراء أبواب مغلقة، حتى ولو كان غير أخلاقي، هو من شأنهم، طالما لم يرتكبوا مخالفة جنائية.

يوم الثلاثاء تنفس الوزير هنت معنا الصعداء عندما رفضت محكمة ستراسبورغ قضية موزيلي، لمناقضتها حرية النشر كدعامة ديمقراطية، كل أحكام تعليق النشر الصادرة هذا العام جاءت لصالح مشاهير بالغي الثراء أرادوا إخفاء أمور تراها الصحافة من أجل الصالح العام.

وناقشنا مع الوزير هنت بضعة أمثلة. زعيم سياسي أو زعيم ديني يرفع شعبيته في بلد محافظ التقاليد كبريطانيا بوعظ الناس باحترام روابط الأسرة، بينما يلتقي بعشيقة في عمر ابنته؛ أو آخر يتزعم مؤسسة تتلقى دعما لمحاربة الفساد، بينما يدفع رشوة لتستضيف بلاده مباريات رياضية عالمية. ومنطقيا فضح هذا النفاق واجب السلطة الرابعة.

صباح الخميس، أحال مكتب المدعي العام صحيفتي الـ«ميرور» والـ«ميل» على النيابة، بتهمة التهاون في نشر أخبار تعرقل سير العدالة، وهي الحادثة الأولى منذ أربعة عقود. الصحيفتان نشرتا تفاصيل القبض على شخص أثناء التحقيق في قضية فتاة عثر عليها مقتولة في غرب إنجلترا. ثم أخليت ساحة الرجل واعتذر البوليس عن الخطأ. وكان البوليس استصدر تعليمات قضائية بمنع نشر الأسماء، وإذا مثلت الصحيفتان أمام المحكمة ربما تواجهان غرامة مالية، وربما حبس الصحافيين.

الخلاصة أنه لا ديمقراطية بلا حرية تعبير وسلطة رابعة متمثلة في صحافة حرة، ولا ديمقراطية بلا سيادة قانون يتساوى الجميع أمامه؛ ولا قيمة للقانون بلا قضاء مستقل. ولا معنى للسلطات كلها - أو النظام الديمقراطي نفسه - إذا لم يكن هدفها حماية الفرد واحترام حرياته الشخصية وحقوقه. والإطار ديمقراطية أساسها التوازنات والضوابط، لا مزيد من القوانين.

بل، على العكس، سر قوة الديمقراطية البريطانية واستقرارها غياب الدساتير والقوانين المكتوبة التي تحد من قدرة القضاء على التفسير الملائم للقضية المطروحة.