معاملة الأطفال

TT

هل تخلص مجتمع ما بعد الثورة في مصر من زلال الديكتاتورية الذي جعل جسد الوطن لزجا إلى هذه الدرجة، وخصوصا في مجال الإعلام؟ لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إلا من خلال أدلة ومؤشرات، والمؤشرات حتى الآن غير مبشرة.

أولى خصائص النظم الديكتاتورية هي أنها تعامل شعوبها معاملة الأطفال، وبناء عليه تكون أولى خصائص الإعلام الديكتاتوري هي ترويج قصص لا تليق ببالغين عقل، وهذا ما يحدث في مصر حتى الآن وعلى الرغم من الادعاء بالثورية على النظام السابق. وهنا، أطرح ما نشرته أهم الصحف المصرية وأكثرها احتراما من وجهة نظر مجتمع كان يرزح تحت وطأة الديكتاتورية في قضية شغلت الرأي العام. تقول الصحيفة العريقة في تقريرها عن القصة التي فجرت الأحداث الطائفية في مصر مؤخرا في إمبابة، وهذه ليست قصة «يا بهية خبريني مين اللي قتل ياسين؟» الشهيرة في التراث المصري، ولكن أن تكون مركبة عليها فليس بالمستبعد في إعلام أصبح الكذب فيه أكثر بكثير من الحقيقة، بل هي قصة الفتاة المسيحية المعروفة باسم عبير التي تركت زوجها المسيحي في أسيوط بجنوب مصر وهربت مع شاب مسلم يدعى ياسين (طبعا).. البداية كما ترويها الصحيفة العريقة، أن الفتاة أقامت بمدينة قويسنا بالمنوفية في ثلاثة منازل: منزل لشيخ، وآخر لصديق زوجها، وثالث تم استئجاره لها.. «وقد أقامت عبير مع زوجها الجديد العرفي بعد أن أشهرت إسلامها على يد الشيخ الذي أقامت عنده».. ثم جاء أهل البنت من الصعيد واختطفوها ووضعوها في كنيسة في أسيوط حتى تتوب وتعود إلى المسيحية.. ولما لم ينفع ذلك أخذوها إلى كنيسة في القاهرة، ثم كنيسة مارمينا في إمبابة، التي عاشت فيها المرأة في رعاية راهبة أعطتها تليفونا وتواصلت مع زوجها المسلم، ثم هربت عبير من الكنيسة يوم الأحداث وذهبت تبحث عن زوجها المسلم، ووجدت أن تليفونه مغلق، ثم ذهبت إلى الشيخ الذي أعلنت عنده إسلامها وأقامت عنده لمدة ليلة، ثم ذهبت إلى صديق زوجها ذي التليفون المغلق وقضت معه ليلة أخرى. ثم بعدها سلمت نفسها إلى البوليس.

بالطبع، هذا كلام لا يليق بصحيفة محترمة أن تنشره من دون تحقيق صحافي جدي، لا أن تنقل قيلا عن قال، ما دامت هذه القضية حساسة في ظل أزمة طائفية تخيم على الوطن. على الأقل، كان يجب محاولة معرفة السياق المحلي للواقعة، فماذا يحدث في أسيوط عادة لو هربت سيدة من بيت زوجها وذهبت مع رجل آخر حتى لو كان ينتمي إلى دينها ومذهبها نفسه. حسب معرفتي بعادات الصعيد، أن يذهب أهل المرأة ويأتوا بها ويسلموها للكنيسة، فهذا أمر غير وارد في عرف الصعايدة ولم تقل به أي دراسة أنثروبولوجية عن الصعيد. الأنثروبولوجيا تقول لنا عن جرائم الشرف التي تقتل فيها الأسرة الفتاة من أجل محو العار الذي يلحق بسمعة العائلة، عائلة الفتاة وعائلة الزوج، وهو أمر يلبس فيه رجال الصعيد الطُرح أو الملاءات، ترميزا على أن العائلة أو القبيلة ليس بها رجال تدافع عن شرف المرأة. المهم هو أن ما قالته الفتاة ونشرته الجريدة لا يتسق مع أي شيء معروف عن عادات وتقاليد أهالي أسيوط. كما أن مسألة أن المرأة وجدت تليفون زوجها المسلم التي كانت تحادثه من الكنيسة مغلقا، عندما هربت إليه وأصبحت حرة طليقة، شيء لا يصدقه طفل. ثم إنها تنام في منزل الشيخ الذي أسلمت عنده ليلة وعند صديق زوجها ليلة، ولا نعرف من هو الشيخ ولا من هو صديق الزوج، ولا تحاول الصحيفة مقابلتهما، فهذا أمر لا يمت للمهنية الصحافية بصلة، ولو ساءت عندنا النية لقلنا إنه متعمد من أجل الإثارة.

النقطة الأساسية هنا هي ليست التقصي البوليسي أو الأسئلة التي أثارتها فقط، ولكن جوهر الموضوع هو معاملة المجتمع كله معاملة أطفال، وهي من طبائع الدولة الديكتاتورية بالترويج لقصص لا يصدقها عقل طفل. وكان نموذج حكم مبارك إلى حد كبير في معظم القصص التي نشرها الإعلام المصري على مدى الخمس سنوات الأخيرة، كلها قصص يتعامل فيها النظام مع المجتمع على أنه مجتمع من الأطفال.

الغريب هو أن السلوك نفسه يسود الإعلام بعد الثورة، وإذا كان تغير الإعلام مؤشرا على تغير النظام والمجتمع، فإذن لا تغيير يذكر هناك. إعلام البالغين العاقلين هو تتبع قصة عبير بطريقة البالغين، فإن كانت هذه القضية قد أثارت الحساسيات والعصبية الدينية كان لا بد من توخي الموضوعية والدقة في نقلها إعلاميا وتحري الصدق من الكذب والمقبول من غير المقبول، لا أن يجعل منها مادة لصب الزيت على النار لجعلها أكثر إثارة كما لو كنا نروي قصة للصغار.

ما نشر عن قصة الفتاة يقول إن الإعلام المصري ما زال يعامل المصريين معاملة الأطفال، وإذا كانت معاملة الشعب معاملة الأطفال هي أهم ملامح الديكتاتورية، إذن فالمجتمع المصري، والإعلام تحديدا، وحتى اللحظة لم يخط ولا خطوة واحدة نحو الحرية. إنه مجتمع وإعلام غارقان في زلال الديكتاتورية، ولا أمل في التحول السريع حتى الآن.