مرافعة دفاع نموذجية عن متهم بالتربح وتضخم الثروة

TT

يا حضرات المستشارين..

أقف أمام عدالتكم مدافعا عن موظف كبير متهم بتضخم ثروته، أموالا وممتلكات، وهو ما ترى فيه النيابة دليلا لا يقبل الدحض على تربحه من وظيفته العامة، غير أننا لا نرى ذلك كذلك، ومع ذلك فنحن نشارك النيابة رأيها في أن أموال موكلي وممتلكاته قد تضخمت إلى حد غير معقول أو مقبول، وها أنا ذا أقدم لعدالة المحكمة مستندا بتوقيع موكلي المتهم يقرّ فيه بذلك، لافتا نظر عدالتكم إلى أن أحدا لم يطلب منه هذا المستند، أنا فقط من طلب ذلك إثباتا لحسن نيته ورغبته الأكيدة في عدم تعطيل سير العدالة، غير أن هذا الإقرار للأسف الشديد ليست له أية أهمية قانونية، لأن القانون في مصر وربما في العالم كله لا يقر بوجود تهمة اسمها «تضخم الثروة» أما إذا فكرتم في محاكمة موكلي مستندين إلى قانون «من أين لك هذا» فعدالتكم بالطبع خير العارفين أن محكمة النقض أسقطت هذا القانون إلى حد العدم لانعدام دستوريته، وذلك لأنه ينقل عبء إثبات الاتهام من النيابة إلى المتهم، بمعني أنه يطلب من المتهم أن يثبت أنه حرامي وهذا أمر لا يتفق والعقل. تضخم الثروة في حد ذاته من الناحية القانونية، ليس تهمة، أما التهمة الحقيقية الموجهة إلى موكلي فهي التربح، وهذا هو ما سأفنده حالا بعد أن أثبت بجلاء لعدالتكم أن يد موكلي لم تمتد يوما ما إلى المال العام بأي شكل من الأشكال، بل إن المال الخاص والعام، المصري والعربي والأجنبي، هو الذي اقتحم عليه حياته بإصرار فأفسدها وأوصله في النهاية إلى الوقوف في قفص حديدي في قاعة المحكمة الموقرة.

اسمحوا لي أن أتناول في عجالة علاقة المصريين بالثروة في النصف قرن الأخير، هي علاقة معقدة للغاية، فقبل ثورة يوليو (تموز) 1952 كان المصريون أكثر تقبلا لفكرة أن شخصا ما يمتلك كمية كبيرة من المال ناتجة عن نشاطه في التجارة أو بسبب ملكيته للأرض الزراعية أو للعقار. ومع الثورة جاءت فكرة أن كل من معه فلوس فهو حرامي، وأنه سرقها بشكل ما من الشعب، وعلى الشعب أن يستردها منه، الواقع أن الشعب لم يستردها حتى هذه اللحظة، من استردها هو الحكومة. لأعوام طويلة كان الشعب المصري فقيرا بغير أن يشعر بالفقر بعد أن أمدته الحكومة بالكبرياء الوطنية بديلا عن الفلوس. وبعد انهيار نظرية ملكية الشعب (يقصدون الحكومة) لوسائل الإنتاج، وبعد أن فشل القطاع العام هنا وفي العالم كله، تم السماح للمصريين بالعمل في إطار أكثر حرية، في تلك اللحظة بدأ ظهور الأثرياء، وظهر معهم الأثرياء بالتبعية في صفوف الحكومة طبقا لنظرية قديمة هي «اللي ياكل لوحده يزور» هكذا تعاونت البيروقراطية مع رجال المال في تحصيل الثروات، غير أن الوعي الجمعي للمصريين لم يتغير بنفس تغير إيقاعات الظروف، ظلت الناس تفكر في أن كل من معه فلوس كثيرة، هو حرامي.

أعود الآن لموكلي.. تضخمت ثروته؟.. نعم، عشرات الشقق الفخمة، شاليهات في كل شواطئ مصر، فيللات، قصور، عزب، مزارع، ملايين الجنيهات والدولارات في البنوك المصرية والأجنبية، نعم.. نعم.. سأشرح لكم حكايتها.. موكلي كان موظفا كبيرا في مكتب مسؤول رفيع بل شديد الرفعة، هذا المسؤول كانت تأتيه الهدايا الغالية الثمينة من كل أنحاء الدنيا، من حكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، كانت الهدايا تنزل عليه كالمطر، هناك مناسبات سعيدة لا تحصى، وهناك أعياد لا تنتهي، عيد الفصح، عيد الأضحى، عيد العمال، عيد الأسرة، عيد النصر، عيد الشرطة، عيد استرداد سيناء، عيد استرداد طابا، عيد استرداد عمر أفندي.

من باب الذوق والكياسة، كان من المستحيل أن تمر هذه الهدايا على أكبر مسؤول في المكتب - وهو موكلي - بغير أن يكون له نصيب فيها، هكذا فوجئ موكلي بالهدايا تنهال عليه من كل حدب وصوب، وكلها غالية وثمينة، حتى المؤسسات الصحافية المصرية المسكينة التي تعاني من إفلاس مزمن، كانت هي أيضا ترسل هدايا بعشرات ملايين الجنيهات في كل مناسبة، وللحقيقة والتاريخ لم يحدث أن طلبت منه هذه المؤسسات أداء خدمات لها في مقابل هذه الهدايا وإلا كانت أثبتتها النيابة في القضية، ما كان يحدث هو أن موكلي عندما كان يدخل مكتبه كل صباح، يجد في انتظاره طابورا من البشر كل منهم يحمل علبا صغيرة أو صناديق أنيقة، ثم يتقدم منه ليقول: صباح الخير يا افندم.. رئيس مجلس إدارة كذا بيصبّح على سعادتك.

هل كان موكلي سعيدا بذلك؟ بالتأكيد كان في منتهي السعادة بهذا النبع المتجدد من الأموال الذي يغرق فيه كل يوم، وبعد ذلك فوجئ بنفسه يفكر في فقراء المصريين وفي الأحياء العشوائية وفي المرضي الذين لا يجدون علاجا والعاطلين الذين لا يجدون عملا، فبدأ يتعذّب، تتضخم ثروته فيتضخم عذابه، كل هذه الأموال سلبته راحة البال والسلام مع النفس، في التحقيقات سأله وكيل النيابة: بماذا كنت تشعر مع تضخم ثروتك لهذا الحد؟

فكانت إجابته: وبماذا تشعر يا سيدي المحقق عندما تصاب بتضخم في البروستاتا؟ إنه نفس الألم.

أنا أراهن على أن عدالتكم تسألون أنفسكم الآن، لماذا لم يتوقف عن قبول الهدايا لكي يرتاح من هذا العذاب وذلك الألم؟

آه.. يا حضرات المستشارين.. نحن نقترب الآن من حقيقة القضية، من المستحيل أن يرفض موظف كبير هدية أرسلها له مسؤول عربي كبير، هذا الرفض سيساء تفسيره سياسيا، لن يكون مجرد موقف من هذا الموظف، بل موقف غير ودي من مصر ذاتها، أن يرفض الهدية معناه أن مصر ترفض الهدية بما يترتب على ذلك من تعقيدات سياسية. لا بد من الاعتراف بأن قبول هذه الهدايا هو سلوك وطني ودفاع استراتيجي عن علاقة مصر بشقيقاتها العربيات، لقد فضّل موكلي أن يتعذب في صمت من أجل مصر.. السؤال الآن هو: وماذا عن الهدايا القادمة من المؤسسات الصحافية المصرية؟ أنا أؤكد لعدالتكم أنه في اللحظة التي يرفض فيها موظف كبير هدية أرسلتها دار صحافية، ستبدأ على الفور موجات من الشائعات في الشارع الصحافي، أن الحكومة غير راضية عن أداء الصحيفة الفلانية، وأن هناك حركة تغييرات قادمة سيتم التخلص فيها من فلان وفلان، عند ذلك تسود البلبلة ويتعكر الرأي العام ويضيع الاستقرار فيترتب على ذلك سيادة الفوضي. لا بد من الاعتراف أن سنوات الاستقرار التي عشناها كانت بفضل موكلي وزملائه الذين تحملوا في صمت عذاب تضخم ثرواتهم.

وبناء على ما تقدم.. أطلب البراءة لموكلي، والأمر لله ولكم من قبل ومن بعد.